اِبْنُ رُشد، أبو الولید محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، المعروف بالحفید، فیلسوف وشارح ومفسر لآثار أرسطو وفقیه وطبیب كبیر في الغرب الإسلامي (الأندلس).
حیاته
ولد بمدینة قُرطبة بالأندلس في ۵۲۰هـ/۱۱۲۶م. وكان جده وأبوه فقیهین وعالمین شهیرین وذوي منزلة عالیة، وقد تولی جده أبو الولید محمد بن أحمد (۴۵۰- ۵۲۰هـ/۱۰۵۸-۱۱۲۶م) منصب قاضي القضاة بقرطبة وصاحب الصلاة بالمسجد الجامع بها. وله تصانیف مهمة في الفقة المالكي (ابن بشكوال، ۲/۵۷۶-۵۷۷). وكان أبوه أبو القاسم أحمد بن محمد فقیهاً وقاضي قرطبة أیضاً (م.ن، ۱/۸۳).
بدأ ابن رشد دراسة الفقه علی أبیه واستظهر علیه كتاب الموطأ، وأخذ یسیراً عن أبي القاسم ابن بشكوال ثم عن أبي محمد ابن رزق وأبي مروان ابن مسرة، وقرأ الأدب علی سَمحون وأجاز له كل من أبي جعفر ابن عبد العزیز وأبي عبد الله المازري وأخذ علم الطب عن أبي مروان ابن جُرّیول البَلَنسي ولاسیما عن أبي جعفر ابن هارون التُّجالي أو التُّرُ جالي. وكانت الدرایة أغلب علیه من الروایة، وألف في ذلك كتاب بدایة المجتهد ونهایة المقتصد.
لاتتوفر معلومات عن أساتذته في الفلسفة وكل ما نعرف أنه أخذ الریاضیات وكثیراً من العلوم الحكمیة خلال المدة التي قضاها عند أبي جعفر ابن هارون الترجالي (المراكشي، محمد، ۶/۲۲؛ ابن الأبار، ۲/۵۵۳-۵۵۴؛ ابن أبي أصیبعة، ۳/۱۲۲). وكان ابن رشد متمیزاً في علم الكلام ولاسیما كلام الأشعري، وإن انتقد الأشاعرة فیما بعد، وقد ورد في بعض الروایات أن الفیلسوف الشهیر ابن باجة (ن.ع) كان أستاذ ابن رشد في الفلسفة ولكنها غیر صحیحة تاریخیاً فقد توفي ابن باجة في ۵۳۳هـ/۱۱۳۸م، أي حینما كان ابن رشد یافعاً في الـ ۱۲ أو الـ ۱۳ من عمره. وأما ارنست رینان فإنه یقول: «إن التشابه في العقائد والاحترام الكبیر الذي بیدیه ابن رشد في حدیثه عن ذلك الرجل الفذ (ابن باجة) یسمح لنا بالقول عامة إن ابن رشد تلمیذه» (ص 14).
ورغم أننا لانعرف الكثیر عن جزئیات حیاة ابن رشد غیر أن روایات المؤرخین وما ورد من إشارات عنه في بعض كتبه یعكس إلی حد ما حوادث حیاته. لقد كان لابن رشد نشاطات اجتماعیة وعلمیة في عهد الموحدین بالأندلس، انعقد مصیره خاصة مع حوادث عهد اثنین من كبار حكام هذه السلالة نعني بهما أبا یعقوب یوسف أبا یوسف یعقوب (المنصور)، وإن كان بدء نشاطاته الاجتماعیة والعلمیة في عهد مؤسس سلالة الموحدین عبد المؤمن علي (۵۲۴-۵۵۸هـ/۱۱۳۰-۱۱۶۳م). وكان عبد المؤمن كما ورد في روایات المؤرخین عالماً محباً لأهل العلم، مقرباً لهم مشوقاً لوفادتهم منفقاً لبضاعتهم (ظ: ابن أبي زرع، ۲۰۳-۲۰۴). وكان ابن رشد بمراكش في ۵۴۸هـ/۱۱۵۳م، ویبدو أنه كان یعمل علی تحقیق أهداف عبد المؤمن في تأسیس المدارس هناك (رینان، 15). ومن ناحیة أخری هناك ما یشیر إلی احتمال أنه في فترة إقامته هذه بمراكش قام بأبحاث جدیدة في علم الفلك، وكان یسعی إلی إعادة علم الفلك الذي كان یعتمد في زمانه علی أساس هیئة بطلمیوس التي تعتمد بدورها علی الریاضیات، إلی علم الفلك الذي كان في العهود القدیمة قائماً علی أساس الأصول الطبیعیة، وقد أوضح هذه المسألة في جزء من تفسیره الكبیر علی كتاب مابعد الطبیعة لأرسطو بقوله: «فیجب أن یجعل الفحص عن هذه الهیئة القدیمة، فإنها الهیئة الصحیحة التي تصح علی الأصول الطبیعیة… وقد كنت في شبابي أؤمل أن یتم لي هذا الفحص، وأما في شیخوختی هذه فقد یئست من ذلك، إذ عاقتني العوائق عن ذلك قبل» (تفسیر…، ۳/۱۶۶۳-۱۶۶۶۴).
وبعد وفاة عبد المؤمن (۵۵۸هـ) خلفه ابنه أبو یعقوب یوسف. وقد توطّد حكم الموحدین في عهده المليء بالحوادث والصراعات والحروب والانتصارات والهزائم، وازدهرت الحیاة الاجتماعیة وكذلك الثقافیة بالأندلس وكان أبو یعقوب عالماً أیضاً وبارعاً في تاریخ العرب واللغة والنحو. كما أفاد من العلوم الأخری إفادة كبیرة كالفقه والحدیث. وتعلم الفلسفة أیضاً، وبدأ من خلال ذلك بعلم الطب النظري وتخطاه إلی ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة. وأمر بجمع كتبها وكتب العلوم النظریة الأخری من أقطار الأندلس والمغرب، كما بحث حول العلماء ولاسیما أهل علم النظر إلی أن اجتمع له منهم الكثیرون (المراكشي، عبد الواحد، ۲۳۷-۲۳۹). وكان من أكبر هؤلاء العلماء الفیلسوف الشهیر ابن طفیل (تـ ۵۸۱هـ/۱۱۸۵م) الذي صار وزیر أبي یعقوب وطبیبه، وحظي لدیه بأوفر العزة والاحترام، وقد دعا ابن طفیل بدوره أیضاً العلماء من مختلف الأقطار إلی بلاط أبي یعقوب ودعاه إلی إعزازهم، كما قدّم إلیه ابن رشد الذي كان یعرفه من قبل.
وقد تحدث عبد الواحد المراكشي عن أول لقاء بین ابن رشد وأبي یعقوب والذي كان له دور مصیري في مستقبله الاجتماعي والفلسفي بقوله: «أخبرني تلمیذه الفقیه [تلمیذ ابن رشد] أبو بكر بُندود بن یحیی القرطبي قال: سمعت أبا الولید یقول غیر مرة: لما دخلت علی أمیر المؤمنین أبي یعقوب، وجدته هو وأبو بكر ابن طفیل لیس معهما غیرهما، فأخذ أبو بكر یثني علي ویذكر بیتي وسلفي، ویضم بفضله إلی ذلك أشیاء لایبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمیر المؤمنین بعد أن سألني عن اسمی اسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأیهم في السماء – يعني الفلاسفة – أقدیمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحیاء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرّر معه ابن طفیل؛ ففهم أمیر المؤمنین مني الروع والحیاء، فالتفت إلی ابن طفیل وجعل یتكلم علی المسألة التي سألني عنها، ویذكر ما قاله أرسطو طالیس وأفلاطون وجمیع الفلاسفة، ویورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام علیهم. فرأیت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلین بهذا الشأن المتفرغین له، ولم یزل یبسطني حتی تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنیة ومركب» (ص ۲۴۲-۲۴۳). ثم یروي المركشي عن تلمیذ ابن رشد هذا حدیث أستاذه قائلاً: «استدعاني ابن طفیل یوماً فقال لي: سمعت الیوم أمیر المؤمنین (یعني أبا یعقوب) یتشكی من قلق عبارة أرسطوطالیس أو عبارة المترجمین عنه ویذكر غموض أغراضه، ویقول: لو وقع لهذه الكتب من یلخّصها ویقرب أغراضها بعد أن یفهمها فهماً جیداً لقرب مأخذها علی الناس. فإن كان فیك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قریحتك وقوة نزوعك إلی الفلسفة، وما یمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنایتي إلی ما هو أهم عندي منه، وقال ابن رشد: فكان هذا الذي حملني علی شرح وتفسیر كتب الحكیم أرسطو طالیس» (ص ۲۴۳)، ولكن یبدو أن بقاء ابن رشد لم یطل عند أبي یعقوب، ذلك أننا نراه في ۵۶۵هـ/۱۱۶۹م یتولی منصب القضاء في مدینة إشبیلیة. وفیها فرغ من كتابة «الجوامع» لكتب أرسطو «في كون الحیوان» و«في أعضاء الحیوان».
وفي نحو ۵۶۷هـ/۱۱۷۱م عاد ابن رشد بمنصب القاضي هذا إلی قرطبة. یقول رینان: لاشك في أنه ألف شروحه الكبیرة (لآثار أرسطو) منذ هذه الفترة وما بعدها. وغالباً ما یشكو فیها من اشتغاله بالأمور الاجتماعیة، التي تأخذ وقته وفراغ باله اللازمین لهذه الأعمال. ویقول في نهایة أول مقالة خلاصة كتاب المجسطي لابد أن أحصر نفسي في أهم قضایا المجسطي وأشبه نفسي برجل ینحو بنفسه من النار المحیطة به بأكثر أشیائه ضرورة مهما كانت. وكانت مهامه تضطره للسفر إلی مختلف أقطار إمبراطوریة الموحدین. فنحن نراه أحیاناً في هذه الجهة وأحیاناً أخری في تلك الناحیة من طرفي مضیق جبل طارق وفي مراكش وفي إشبیلیة وفي قرطبة، وقد أرخت تفاسیره في هذه المدن المختلفة. ففي ۵۷۴هـ/۱۱۷۸م یؤلف في مدینة مراكش جزءاً من كتابه «عن جوهر الجرم الفلكي»، وفي ۵۷۵هـ یفرغ بإشبیلیة من إحدی رسائله عن الإلهیات، وفي ۵۷۸هـ یولیه أبو یعقوب یوسف بمراكش منصب طبیبه الأول خلفاً لابن طفیل (ص 19-18؛ قا: مونك، 423-422). وفي شعبان سنة ۵۷۹هـ عین أبو یعقوب ابن رشد بمنصب قاضي القضاة في قرطبة، كما ولّی في نفس الوقت أربعة من أولاده علی أربع من نواحي الأندلس: أبا إسحاق والیاً علی إشبیلیة وأبا یحیی والیاً علی قرطبة (بطلب من ابن رشد) وأبا زید والیاً علی غرناطة، وأبا عبد الله والیاً علی مُرسیة. وكان أبو یعقوب آنذاك یعد نفسه لمواجهة المسیحیین وقتالهم، تلك المواجهة التي انتهت بحرب شنترین، وهزم المسلمون فیها وأصیب أبو یعقوب بجراح بلیغة وأخیراً توفي في ۱۲ ربیع الثاني ۵۸۰، وفي روایة أخری في ۷ رجب من تلك السنة (عنه ظ: ابن صاحب الصلاة المؤرخ المعاصر له في كتابه، المنّ بالإمامة، ۴۰۵-۴۰۶؛ أیضاً عنان، ۲/۱۱-۱۳).
وبعد وفاة أبي یعقوب، خلفه ابنه أبو یوسف یعقوب وكان آنذاك في الـ ۳۲ من عمره وقد نال لقب المنصور لانتصاراته العدیدة في حروبه مع المسیحیین بقیادة ألفونسو الثامن ملك قشتالة في حرب الأرَك[۱]، وقد حظي ابن رشد باحترام أبي یوسف والتقرب منه حتی أواخر عهده تقریباً ونحن نشیر إلی حادثتین من بین الحوادث المؤلمة التي وقعت في فترة حكمه، ستتعلق إحداهما بشكل من الأشكال بنهایة ابن رشد.
الحادثة الأولی حینما كان أبو یوسف في إحدی حروبه، ففي تلك الفترة ثار علیه أخوه أبو حفص عمر، الملقب بالرشید وعمه أبو الربیع سلیمان بن عبد المؤمن، وكان أحدهما بشرقي الأندلس والیاً بمُرسیة والآخر بمدینة تادِلا من بلاد صنهاجة. ولما تناهی خبر هذه الثورة إلی أبي یوسف أزعجته وعجل إلی مراكش (فاس) فبادر أخوه وعمه للقائه، ولكنه أمر بالقبض علیهما وقُیدا بالحدید ثم كتب إلی القائم علیهما بقتلهما. كان ذلك في ۵۸۳هـ/۱۱۸۷م (المراكشي، عبد الواحد، ۲۷۶-۲۷۸).
والحادثة الثانیة حینما قصد أبو یوسف في ۵۸۵هـ ألفونسو إنریكس (بطروبن الریق) أول ملك علی البرتغال (۱۱۳۹-۱۱۸۵م) لقتاله، وكان قد غلب آنذاك علی مدینة شِلب بالأندلس، وقد ولّی أبو یوسف أخاه الآخر أبا یحیی ولایة قرطبة في غیابه، وبعد أن أخرج أبو یوسف البرتغالیین من الأندلس عاد إلی مراكش فمرض مرضاً شدیداً خیف علیه منه، فاستدعی أبا یحیی إلیه، لكنه جعل یتلكأ ویبطئ تریصاً به وطمعاً في وفاته، واستمال خلال ذلك أشیاخ الأندلس ودعاهم إلی نفسه، لكن أبا یوسف شفي من مرضه وأشار علیه الأطباء بالسفر فخرج قاصداً مدینة فاس، وبلغه أثناء ذلك خبر مؤامرة أبي یحیی. ولما سمع هذا بشفائه، جاء معتذراً إلیه ولقیه بمدینة سلا، غیر أن أبا یوسف استدعی شیوخ الأندلس إلیه وأدوا شهاداتهم ثم أمر بأبي یحیی فأحضر وأمر به فضربت عنقه. وتولی قتله أخوه لأبیه عبد الرحمن بن یوسف وذلك بمحضر من الناس (ظ: م.ن، ۲۸۰-۲۸۱). وهنا لابد من الإشارة إلی أن أبا یحیی هذا هو الذي ولاه أبو یعقوب والد أبي یوسف قرطبة بتوصیة ابن رشد كما ذكرنا سابقاً. ویبدو أن علاقة ابن رشد هذه ومنزلته عند أبي یحیی لعبا دوراً في استیاء أبي یوسف المنصور منه أو المحنة التي تعرض لها عنده.
یقول ابن أبي أصیبعة أثناء إشارته إلی حرب الأرك: «لما كان المنصور في ۵۹۱هـ بقرطبة وهو متوجه إلی غزو ألفونسو الثامن ملك قشتالة، استدعی أبا الولید ابن رشد، فلما حضر عنده، احترمه كثیراً، وقربه إلیه، حتی تعدی به الموضع الذي كان یجلس فیه أبو محمد عبد الواحد بن الشیخ حفص الهِنتاني صاحب عبد المؤمن وهو الثالث أو الرابع من العشرة. وكان هذا عبد الواحد قد صاهر المنصور وزوجه بابنته لعظم منزلته عنده، ورزق عبد الواحد منها ابناً اسمه علي، وهو الآن صاحب إفریقیة (تونس)» (۱/۱۲۳-۱۲۴)؛ ورغم ذلك فما لبث الوضع أن تغییر وتعرض ابن رشد لغضب المنصور. ویذهب المؤرخون في سبب ذلك بالظن إلی عوامل عدیدة، ویوردون روایات مختلفة. ویقول عبد الواحد المراكشي كان للغضب علی ابن رشد سببان: جلي وخفي. فأما سببه الخفي فإن ابن رشد قال في شرح كتاب «الحیوان» لأرسطو عند ذكره الزرافة «وقد رأیتها عند ملك البربر…» ومراده الملوك الموحدون (ص ۳۰۵؛ قا: شرح ابن رشد للكتاب الثاني «في السماء[۲]» لأرسطو، في الترجمة اللاتینیة، الورقة 172، حیث یقول: «إنه یری الزرافة في قصر ملك البربر بمراكش». ویورد ابن أبي أصیبعة هذه القصة ویضیف قائلاً: «وكان أحد الأسباب الموجبة في أنه نقم علی ابن رشد»، ویقال إنه مما اعتذر به ابن رشد أنه قال: إنما قلت «ملك البرّین» (أي ملك إفریقیة والأندلس) وإنما تصحفت علی القارئ فقال ملك البربر. والسبب الآخر الذي یذكره ابن أبي أصیبعة أن ابن رشد متی حضر عند أبي یوسف المنصور وتكلم معه أو بحث، یخاطب المنصور بأن یقول: «تسمع یا أخي». مما یثقل علیه سماعه (۳/۱۲۴-۱۲۵؛ عنان، ۲۲۸).
وورد في روایات أخری أنه نشأ بین ابن رشد وبین أهل قرطبة قدیماً وحشة، جرتها أسباب المحاسدة والمنافسة فانتدب الطالبون لنفي أشیاء علیه في مصنفاته تأولوا الخروج فیها عن سنن الشریعة وإیثاره لحكم الطبیعة، وجمعت في أوراق، ورفعوها إلی المنصور في ۵۹۰هـ فشُغل عنها لمشاغل أخری. ولما عاد إلی قرطبة، أدلی طالبوه السوء بتلك الأقوال وقرئت بالمجلس وتؤولت أغراضها ومعانیها. وأخیراً أمر المنصور طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بالجامع، وشهدوا مروقه مع عدد آخرین من الدین. وورد في هذه الروایة أن أسباب نكبة ابن رشد هذه اختصاصه بأبي یحیی أخي المنصور والي قرطبة (المراكشي، محمد، ۲۵-۲۶). وأبو یحیی هذا هو الذي أراد الثورة كما ذُكر علی المنصور وأمر بقتله. ومن الناحیة السیاسیة ربما كانت علاقة ابن رشد بأبي یحیی دافعاً مهماً لنكبته لدی المنصور. وجاء في روایة أخری أن قوماً من مناوئیه وخصومه من أهل قرطبة سعوا به عند أبي یوسف، وأخذوا بعض التلاخیص التي كان یكتبها فوجدوا فیها بخطه حاكیاً عن بعض قدماء الفلاسفة «فقد ظهر أن الزُهرة أحد الآلهة…»؛ فأوقفوا أبا یوسف علی هذه الجملة. فاستدعی ابن رشد، وقال له بعد أن نبذ إلیه الأوراق بغضب: أخطك هذا؟ فأنكر! فقال المنصور لعن الله كاتب هذا الخط: وأمر الحاضرین بلعنه، ثم أمر بإخراجه علی حالٍ سیئة، وإبعاده وإبعاد من یتكلم في شيء من هذه العلوم (أي علم الفلسفة) وكتب عنه الكتب إلی البلاد بالتقدم إلی الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة وإحراق كتب الفلسفة كلها (المراكشي، عبد الواحد، ۳۰۶). وكتب عن المنصور في هذه القضیة كاتبه عبد الله ابن عیاش كتاباً إلی مراكش وغیرها، ورد نصه في الذیل والتكملة (المراكشي، محمد، ۲۵-۲۸).
وإلی جانب ذلك هناك روایة أخری نقلاً عن عبد الكبیر بن عیسی الغافقي یقول فیها إنه كان یتصل بابن رشد أیام قضائه بقرطبة، وحظي عنده، وقد جری ذكر ابن رشد في محادّة الشریعة فقال عبد الكبیر: إن هذا الذي ینسب إلیه ما كان یظهر علیه، وكان یراه یخرج إلی الصلاة وأثر ماء الوضوء علی قدمه، ویضیف قائلاً: وما كدت آخذ علیه فلتة إلا واحدة، وهي عظمی الفلتات، وذلك حین شاع في المشرق والأندلس علی ألسنة المنجمین أن ریحاً عاتیة تهب في یوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس. واستفاض ذلك حتی اشتد جزع الناس معه واتخذوا الغیران والأنفاق تحت الأرض توقیاً لهذه الریح. ولما انتشر الحدیث بها استدعی والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك وفیهم ابن رشد وهو القاضي بقرطبة یومئذ وابن بندود. ولما انصرفوا من عند الوالي، تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الریح من جهة الطبیعة وتأثیر الكواكب. قال عبد الكبیر: وكنت حاضراً فقلت في أثناء المفاوضة إن صح أمر هذه الریح فهي ثانیة الریح التي أهلك الله تعالی بها قوم عاد، قال: فانبری إليّ ابن رشد ولم یتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقاً فكیف سبب هلاكهم؟ فسقط في أیدي الحاضرین وأكبروا هذه الزلة التي لاتصدر إلا عن صریح الكفر والتكذیب لما جاءت به آیات القرآن (م.ن، ۲۸-۲۹). وورد في هذه الروایة أیضاً قول أبي القاسم ابن الطیلسان: سمعت كلامه (ابن رشد) بالمسجد الجامع من قرطبة وهو یحض الناس علی الجهاد والغزو في سبیل الله بلسان طَلِق وإیراد مستحسن، ویوم ورد الخبر بهزیمة ألفونسو (الثامن) في حرب الأرك ورأینا أعلام العداة منكوسة سجد القاضي ابن رشد شكراً وسجدنا جمیعاً معه ثم حدثنا بحدیث عن أبي داود أن النبي كان إذا جاءه أمر سرور أو بشِّر به خرّ ساجداً شكراً لله تعالی (م.ن، ۲۴).
ویمكن القول إن لنكبة ابن رشد أسباباً شخصیة بالإضافة إلی الأسباب السیاسیة، فاختصاصه وعلاقته بأبي یحیی شقیق أبي یوسف وجدها ذات تأثیر في مصیره الأخیر. ویمكن أن یضاف إلی هذا السبب أیضاً الحسد والمؤامرات التي كان یحوكها الفقهاء السطحیون في بلاط أبي یوسف. وقد أدت هذه كلها إلی نفي ابن رشد إلی إلیسانه [۳]وهي مدینة قرب قرطبة كان یسكنها الیهود. ویقال بأن ابن رشد ینسب إلی بني إسرائیل إذ لایعرف له نسب في قبائل الأندلس (م.ن، ۲۶). وهكذا كان ابن رشد محبوساً بداره في تلك المدینة، لایتمكن من زیارة أحد. یذكر تاج الدین ابن حَمّویه (تـ ۶۵۳هـ/۱۲۵۵م) في كتابه الرحلة المغربیة، لما دخلت المدینة سألت عن ابن رشد فقیل: إنه مهجور في بیته [بمراكش؟!] من جهة الخلیفة [أبي یوسف] یعقوب لایدخل إلیه أحد، ومات محبوساً بداره في صفر ۵۹۵هـ (الذهبي، ۲۱/۳۰۹). والصحیح أن هذا الإبعاد لمیطل ویقال: إن أعیان إشبیلیة شفعوا له عند المنصور، ولما رجع الخلیفة إلی مراكش نزع عن كل قراراته وأعماله الماضیة وجنح إلی تعلم الفلسفة، وأرسل یستدعي ابن رشد من الأندلس للإحسان إلیه والعفو عنه. فحضر ابن رشد إلی مراكش ولكن ما لبث أن مرض ومات في ۹ صفر ۵۹۵هـ/۱۰ كانون الأول ۱۱۹۸م. ثم توفي أبو یوسف المنصور بعد شهر من هذا التاریخ (المراكشي، عبد الواحد، ۳۰۶-۳۰۷؛ ابن أبي أصیبعة، ۳/۱۲۴-۱۲۵). دفن ابن رشد أولاً في مراكش ثم نقل بعد ۳ أشهر إلی قرطبة ودفن في مقبرة أسرته في مقبرة ابن عباس. ونجد روایة عن دفنه في قرطبة عند محیي الدین ابن عربي (تـ ۶۳۸هـ/۱۲۴۰م) الذي حضر مراسمه بنفسه وكان في الـ ۳۵ من عمره. فبعد أن یتحدث عن لقائه ابن رشد كان آنذاك قاضي قرطبة، وابن عربي صبي في مقتبل عمره ولكنه عرف بمقاماته المعنویة، یقول «فما اجتمعت به حتی درج وذلك سنة ۵۹۵هـ بمدینة مراكش ونقل إلی قرطبة وبها قبره؛ ولما جعل التابوت الذي فیه علی الدابة جعلت تآلیفه تعادله من الجانب الآخر وأنا واقف ومعي الفقیه الأدیب أبو الحسین محمد بن جبیر وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السراج…» (۱/۱۵۳-۱۵۴). والجدیر بالذكر أن ابن جبیر هو الذي نظم قصیدة بعد نكبة ابن رشد في ذمه وذم الفلسفة (المراكشي، محمد، ۳۰).
آثاره
اشتهر ابن رشد خلال القرون الوسطی وعصر النهضة الحدیثة في أوروبا باعتباره شارحاً كبیراً لكتب أرسطو. وقد نال هذه الصفة بحق، حیث یمكن اعتباره من أكبر الشارحین لآثار أرسطو في جمیع العصور. وقد بلغت شهرة شروحه علی كتب أرسطو وتأثیراتها حداً في القرون الوسطی شاع معه القول: «شرح أرسطو الطبیعة شرح ابن رشد أرسطو». ولابن رشد كتب خاصة به بالإضافة إلی شروحه لآثار أرسطو لكل منها قیمة خاصة فلسفیة وتحقیقیة. وتقسم شروح ابن رشد لآثار أرسطو إلی ثلاثة أقسام: شروح مفصلة ومبسوطة یسمی كل واحد منها بـ «التفسیر»، أو «الشرح»؛ وشروح متوسطة یسمی واحدها بـ «التلخیص»؛ وخلاصات ویدعی واحدها «الجامع» ومجموعها «الجوامع». وطریقة ابن رشد في تفاسیره أنه یورد مقاطع من نص أرسطو من ترجمته العربیة، ثم یبادر إلی تفسیرها وشرحها شرحاً دقیقاً وعمیقاً، وهو یأخذ أثناه ذلك مما لدیه من تفاسیر المفسرین الیونانیین المترجمة إلی العربیة وأحیاناً ینتقدها، ثم یبین ما أدركه من نص أرسطو، ویورد في الشروح المتوسطة أو «التلخیصات» الكلمات الأولی من نص أرسطو، ثم یشرح بقیة المواد بلغته، ویضیف إلیها شروحه وآراءه الشخصیة والمعلومات التي لدیه من مصادر الفلاسفة المسلمین بحیث یبدو الأثر بشكل كتاب مستقل، تمتزج فیه أقوال أرسطو بأقوال ابن رشد، ولایمكن تمییز إحداهما عن الأخری. أما طریقة ابن رشد في الخلاصات أو «الجوامع» فإنه یتحدث دائماً عنها بنفسه في الوقت الذي یبین عقائد أرسطو وآراءه، ویأخذ خلال ذلك مما في كتبه الأخری لبیان وإكمال النص الذي بین یدیه، ویضیف إلیها من معلوماته. أم من حیث تاریخ هذه الكتب فیتبادر إلی الذهن هذا السؤال: أي قسم كان قبل الآخر؟ فقد ساد الاعتقاد خلال القرون الوسطی والنهضة الحدیثة بأن ابن رشد لخص «الجوامع» في شبابه و«التلخیصات» في أواسط عمره و«التفاسیر» في شیخوخته. ویعتقد رینان أیضاً بأن ابن رشد لخص «التفاسیر» الكبری بعد القسمین الآخرین. ففي نهایة الترجمة العبریة لـ «تفسیر الطبیعة الكبیر» لأرسطو الذي دوّنه في ۵۸۲هـ/۱۱۸۶م قال: أثناء شبابي قمت بشرح آخر أقصر لهذا الكتاب. ووعد في بعض تلخیصاته أیضاً بشروح أكثر تفصیلاً لها. ثم إن في خواتم أكثر كتب ابن رشد التي فقد أصلها العربي هوامش حفظت في الترجمة العبریة تساعد إلی حدما في تحدید زمانها (ظ: رینان، 61-60). ونورد فیما یلي أسماء جمیع كتب ابن رشد التي یوجد لدینا الآن أصلها العربي أو ترجمتها اللاتینیة والعبریة: