الأخلاق
cgietitle
1443/2/22 ۲۳:۵۴:۳۱
https://cgie.org.ir/ar/article/237022
1446/9/4 ۰۲:۳۰:۱۹
نشرت
6
و الطابع الممیز لتعالیم الإمام الباقر (ع) مقارنة بالأئمة الذین سبقوه، سعة التعالیم و تناول مکارم الأخلاق و مساوئها بالبحث بشکل أکثر تفصیلاً. و یمکن العثور علی هذه التعالیم في شتی مواضع الآثار الأخلاقیة لدی الإمامیة و من بینها ماورد في «کتاب الإیمان» من کتاب الکافي للکلیني. و إن ماتم التزکیز علیه بشکل أکبر في تعالیم الإمام الباقر (ع) هو جانب من الأخلاق الاجتماعیة مثل التأکید علی تفقد أحوال المؤمنین و کیفیة تنظیم العلاقات بینهم، بل و حتی آداب الصداقة و اختیار الصدیق (مثلاً ظ: الکلیني، 2/ 180–181، مخـ؛ أیضاً أبونعیم، 3/ 184–187).
و کان للإمام الصادق (ع) دور فاعل جداً في تبیان و تدوین التعالیم الأخلاقیة لأهل البیت (ع)، کما هو الأمر في بقیة مجالات العلوم الإسلامیة مثل العقائد و الفقه. و في الحقیقة، فإن کثیراً مما روي في الآثار الأخلاقیة للإمامیة في شتی الأبواب، هو أحادیث للإمام الصادق (ع). و بصورة عامة یمکن تبویب التعالیم الأخلاقیة لهذا الإمام في عدة أبواب: تعالیم حول کیفیة تعامل الشیعة مع الجماعة و مصاحبتهم؛ تعالیم حول حقوق الشیعة و واجباتهم تجاه بعضهم؛ مواعظ متنوعة حول التحلي بمکارم الأخلاق و تجنب مساوئ الأخلاق. و فضلاً عن الأحادیث المتناثرة و الکثیرة، فقد نسبت أیضاً إلی الإمام الصادق (ع) رسائل ذات أسانید تتضمن تعالیم أخلاقیة. و من هذه الآثار ینبغي ذکر «وصیته» إلی أصحابه (الکلیني، 8/ 2–14: نص الوصیة) و «رسالته » الموجهة إلی عبدالله النجاشي (الجاشي، 101، 213: إشارة إلیها؛ ابن زهرة، 46–55؛ الشهید الثاني، 85–96: نصها). و کان الإمام الصادق (ع) یعارض النزعات الصوفیة التي کانت قد أصبحت متداولة في عصره بشکلها البدائي، و کان یدعو أتباعه إلی المعیشة المتوازنة و الزي المتعارف علیه (ظ: الکلیني، 5/ 65–70، 6/ 441–444؛ أیضاً أبونعیم، 3/ 193).
ولدی الحدیث عن الآثار الأخلاقیة المنسوبة إلی الأئمة (ع)، یجدر أیضاً أن یشار إلی «الوصیة» المنسوبة للإمام الکاظم (ع) الموجهة إلی هشام بن الحکم من متکلمي أصحابه، التي اعتبر فیها «العقل» معیاراً للتقییم و بُیِّن عدد من التعالیم الأخلاقیة في ضوء هذا المعیار. ولا یوجد مثیل لهذه الوصیة من حیث تعاملها مع التعالیم الأخلاقیة من جهة و کذلک من حیث إقامة ارتباط بین العقل و الشرع في التعالیم الأخلاقیة (الکلیني، 1/ 13–20؛ أیضاً ابن شعبة، 383–402: نص الوصیة).
و في تحلیل عام و من خلال المقارنة مع بقیة المدارس الأخلاقیة المعروفة، یمکن تلخیص زبدة التعالیم الأخلاقیة للإمام الصادق (ع) و أتباعه في العبادة المتوازنة و التمتع بنعم الدنیا في الحد المتعارف علیه مع مراعاة الحدود الشرعیة و حقوق الناس بشکل کامل و معارضة تحریم ما أحل الله. و مهما یکن، فإن التعلیم الأخلاقي هو من الموضوعات الأساسیة التي تم الاهتمام بها في الأقوال المنقولة من الأئمة الاثني عشر و هي الأقوال التي دُونت في المصادر الإمامیة و إلی حدّ ما في مؤلفات بقیة المؤلفین الإسلامیین. و في بعض المصادر مثل تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة الحراني (من القرن 4هـ علی ما یحتمل) و نزهة الناظر للحسین بن محمد الحلواني (القرن 5هـ)، جمع کلام کل واحد من الأئمة بشکل منفصل مع الترکیز بشکل خاص علی التعلیم الأخلاقي.
ممثلي هذه المدرسة الحسن البصري عالم البصرة الشهیر (تـ 110هـ/ 728م) الذي درس علی آخر الصحابة و کذلک علی بعض کبار التابعین و کان تعلیمه حجازیاً – بصریاً، و هو ذو شخصیة غامضة، و لعب دوراً مؤثراً و تأسیسیاً في شتی مجالات العلوم الإسلامیة. کما نال منزلة رفیعة في أخلاق الزهد و آدابه. و ما ینسجم من تعالیمه مع تعالیم الزهاد المتقدمین في العراق، خصائص مثل التأکید علی العبادة و اجتناب السعي لأجل الدنیا و العزلة عن الناس و تجنب المزاح و الترکیز علی الجد و الحزن (ظ: ابن سعد، 7(1)/ 117، 120–125؛ أبونعیم، 2/ 131 و ما بعدها). و هذه السمات تربط أسلوب الحسن البصري بطریقة القراء العباد من أهل البصرة و القراء الکوفیین من حلقة أویس. و هذا الارتباط هو الذي تجلی في نظریة «الزهاد الثمانیة»؛ السلسلة التي تبدأ بأویس القرني و عامر بن عبدقیس و تنتهي بالحسن البصري (ظ: م. ن، 2/ 134–140: انعکاس نزعات الحسن البصري الزهدیة في رسالته إلی عمر بن عبدالعزیز؛ أیضاً ابن خیر، 300).
استفاد الحسن البصري کثیراً بشکل غیر مباشر من تعالیم الإمام علي (ع) و کان بعض تعالیمه مقتبساً بوضوح من أقوال هذا الإمام. و کنموذج علی ذلک، فإن التعلیم الأساسي في مدرسة الحسن القائل إن المؤمن واقع بین خوفین: خوف من عاقبة الذنوب الماضیة و خوف من الأجل الذي سیأتي (ظ: أبونعیم، 2/ 108) هو في الحقیقة قول للإمام علي (ع) (ظ: الشیخ الطوسي، الأمالي، 1/ 211؛ أیضاً ظ: الکلیني، 2/ 71؛ ظ: الماوردي، 108: نماذج أخر مثل اقتباسه من مضمون الحکمة 36 من نهجالبلاغة، أیضاً 279: من مضمون الحکمة 267، أیضاً 97: من مضمون الحکمة 419؛ أیضاً ظ: الاختصاص، 342). و من جهة أخری فإن ما تعلمه الحسن البصري في الحجاز و في حلقة ابنعباس بشکل خاص کان قد حوّله إلی عالم یهتم بتفسیر القرآن قبل أن یکون في عداد القراء، خلافاً لزهاد العراق المتقدمین (ظ: ابن الندیم، 36). و خلافاً لهم أیضاً لمیکن یأنف من الجلوس کفقیه و محدث علی منبر التدریس و ینبری للإفتاء و تعلیم الحدیث (أیضاً ظ: ابن سعد، 7(1)/ 142). کما لمیکن اتجاه الحسن البصري إلی الوعظ و القصص (ظ: الجاحظ، البیان، 1/ 284) ینسجم مع أسلوب العراقیین القدماءف و کان یمکن تسویغ ذلک فحسب في إطار تعلیمه الحجازي و بشکل خاص علاقته بحلقة ابن عباس.
و یمکن ترتیب السمات العامة لمدرسة التمسک بالخوف البصریة علی النحو التالي: الاعتماد علی الخوف من العقاب؛ الامتناع عن السعي للدنیا و التأکید علی الزهد؛ کثرة العبادة و المواظبة علی الحزن. و من السمات الأخری لهذه المدرسة مما لیس لها علاقة مباشرة بالأخلاق لکنه کموضحٍ یسهل أمر تمییزه عن مدرسة الرجاء، الاهتمام بالتفسیر و تجویز کتابة الحدیث و تناول القصص و إقامة علاقات محدودة مع المحکّمة و المقدریة. و قد استمر نشاط مدرسة التمسک بالخوف البصریة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري علی ید تلامذة الحسن البصري و المرتبطین بحلقته، إلا أن حاملي لواء هذه المدرسة أنفسهم لم یلتزموا نهجاً موحداً من حیث الأسلوب الفکري.
و مالک بن دینار الذي کان منظّراً قدیراً فقد کان یعتبر في تعالیمه ذکرَ الله اکبَر النعم الإلهیة التي یصاب الإنسان بالحرمان منها بضنک في المعیشة و ضعف في العبادة (أبونعیم، 2/ 358–364). و قد تحدث عن معرفة الله و عدّها أهم ما تنشغل به النفس (م.ن، 8/ 23). و یلاحظ في کلام مالک بن دینار و وعظه تأثیر القصص الإسرائیلیة علی نطاق واسع. و تدل روایات واضحة علی أن ابن دینار نفسه کان یشتغل بمطالعة کتب الماضین و منها التوارة و الزبور (ظ: م.ن، 2/ 358–385؛ أیضاً للاطلاع علی نقل الکثیر من القصص الإسرائیلیة في مواعظ معاصره أبي عمران الجوني البصري، ظ: م.ن، 2/ 309–315). و کان عباد بن کثیر الثقفي أحد رجال هذه المدرسة الآخرین، الذي هاجر إلی مکة أواسط القرن 2هـ، واسطة لنقل تعالیم الحسن البصري إلی رجالٍ مثل إبراهیم بن أدهم و شقیق البخلي من مؤسسي التیا الصوفي (ظ: م. ن، 8/ 19، 72؛ أیضاً الذهبي، سیر...، 7/ 106).
و للحدیث عن المدارس المتفرعة من مدرسة التمسک بالخوف البصریة، تجدر الإشارة أولاً إلی المعتزلة التي کان مؤسساها واصل بن عطاء و عمر و بن عبید من تلامذة الحسن البصري ممن تأثروا بتعالیمه إلی حد کبیر، و الطابع الممیز لهذه المدرسة مقارنة بتعالیم الحسن، هو فکرة «المنزلة بین المنزلتین» بالنسبة للفاسق و التي هي نظریة کلامیة – أخلاقیة. و قد تجلی عنصر الخوف من العقاب في الفکر المعتزلي في قالب نظریة «الوعید» (ظ: الشیخ المفید، وائل...، 53)، و إن فکرة الحسن و القبح العقلیین التي طرحت من قبل متکلمین معتزلة مثل أبي الهذیل العلاف (تـ ح 230هـ/ 845م) بوصفها نظریة کلامیة مهمة (ظ: الشهرستاني، 1/ 52، 55) تحظی بأهمیة کبیرة من حیث فلسفة الأخلاق و مسار تطور النظریات الأخلاقیة في الثقافة الإسلامیة (لمزید من الاطلاع، ظ: القسم I من هذه المقالة). و فضلاً عن الجوانب النظریة، یجدر القول إن عمر و بن عبید کان نفسه زاهداً متعلماً في مدرسة الحسن البصري (ظ: م.ن، 1/ 53)، و کان تلمیذه عمر و بن فائد الأسواري (تـ ح 200هـ) یشتغل بتعلیم التفسیر و الأخلاق في البصرة لفترة طویلة (ظ: الجاحظ، البیان، 1/ 284). و قد استفاد أبوالهذیل العلاف – فضلاً عن التعالیم الأخلاقیة للبصریین و الحکمة العربیة – من حکمة إیران القدیمة أیضاً (ظ: ن.د، 5/ 461). کما خلّف الجاحظ في هذا المضمار آثاراً جمة شکلت منعطفاً مهماً في الأدب الأخلاقي (لمزید من الإیضاح، ظ: ن.د، الأدب).
و کتفرع آخر تجدر الإشارة إلی فریق من زهاد البصرة اتجهوا إلی شکل من أشکال الرهبانیة ولم یکتفوا في زهدهم و ورعهم بالامتناع عن الزواج، بل بلغم الأمر بهم حداً أن مارسوا ریاضات شاقة و عذبوا أجسادهم (ظ: أبونعیم، 6/ 192–195؛ المکي، 2/ 493). و من بین هؤلاء الزهاد ینبغي أن نذکر رابعة العدویة و ریاح بن عمر و القیسي و أبا حبیب الذین اعتبروا في نظر علماء الجماعة من ذوي البدع في طریق العبادة و الزهد (ظ: الذهبي، میزان، 2/ 62). و إن حب الموت الذي کان یلاحظ في أوساط الزهاد العراقیین قبل ذلک، تجلّی في تعالیم هذا الفریق بصورة «الشوق إلی لقاء الله» (ظ: أبونعیم، 6/ 193، 287–288).
أشهر شخصیات هذه المدرسة هو ابن سیرین (تـ 110هـ) التابعي البصري الذي کان قد تعلم أیضاً علی بعض قراء حلقة ابن مسعود مثل عبیدة السلماني، فضلاً عن الاستفادة من بعض الصحابة مثل ابن عباس و ابن عمر و أنس بن مالک. و رغم أن طرح فکرة الرجاء في مقابل أصحاب فکرة الخوف، و ترک الاتجاه إلی الزهد و تجنب الدنیا، یلاحظ قبل ابن سیرین في تعالیم أبط العالیة و مطرف بن عبدالله أیضاً (ظ: ابن سعد، 7(1)/ 103)، لکن تجلی علی الدوام في الآثار الإسلامیة تقابل بین اتجاهي الخوف و الرجاء في البصرة بشکل تقابل الحسن البصري و ابن سیرین (مثلاً ظ: م.ن، 7(1)/ 117، 120، 142). و لمیکن ابن سیرین یعرض في تعالیمه الأخلاقیة طریقة معقدة، و یمکن تلخیص أسلوبه المقترح بعبارة واحدة و هي «ورع فقهي» و فقه ممتزج بالورع – أي أسلوب قریب من فقهاء المدینة – بحسب تعبیر معاصره البصري مورّق العجلي (ظ: ن.ص). و هو بوضعه التزمّت الأخلاقي جانباً، لمیکن یحبذ الحزن علی صفحات الوجه، بل یحبذ انفتاح الأساریر و روح الدعابة؛ و کان یکسب قوته بنفسه. و في شؤون الحیاة الاعتیادیة کان بفضل السعي لطلب الدنیا مع مراعاة الورع علی الابتعاد عن الکسب و المواظبة علی العبادة (ظ: م.ن، 7(1)/ 117، 120، 142، 146 - 147؛ أبونعیم، 2/ 274–275).
کما کان لفقیه البصرة أبي قِلابة الجَرمي المعاصر لابن سیرین في الأخلاق اتجاه قریب منه، و کان یدعو الناس إلی اکتساب النعم الدنیویة مع المواظبة علی الشکر (م.ن، 2/ 286). و قد توبعت طریقة ابن سیرین في الأجیال التالیة من فقهاء البصرة مثل أیوب السختیاني و عبدالله بن عون المزني و یونس بن عبید (ظ: ابن سعد، 7/ (2)/ 16، 24–26، مخـ؛ أبونعیم، 3/ 15–16، مخـ). و الحدیث عن فضیلة العمل من أجل کسب الرزق الحلال و «الدرهم الطیب» التي کان یونس بن عبید یروج لها (ظ: م.ن، 3/ 17)، له أهمیة خاصة في مسار التحول الأخلاقي في العراق. کما أن معارضة یونس لکثرة الصیام و الإفطار علی الحرام و کثرة العبادة مع انشغال ذمة الإنسان بسبب غصب حقوق الآخرین (ظ: ابن سعد، 7(1)/ 144، 7(2)/ 16، مخـ). و بطبیعة الحال فإن النتیجة الأخری لهذه الفکرة هي المیل إلی الوقف و السکوت أمام جور الحکام و الذي یلاحظ انعکاسه في تصرف ابن سیرین و بقیة رجال هذه المدرسة حتی في تعامله مع شخص مثل الحجاج (ظ: أبونعیم، 2/ 271؛ أیضاً ظ: ن.د، 3/ 299). و ضمن هذا الاتجاه اقترب جناح أبي قلابة – ابن عون من النزعات العثمانیة بابتعاده المفرط عن القائمین بالسیف (ظ: ابن سعد، 7(1)/ 91، 7(2)/ 24).
و یمکن ترتیب السمات العامة لمدرسة أهل الرجاء علی النحو التالي: ألف– ما یحض التعالیم الأخلاقیة نسبیاً: التأکید علی الرجاء، الدعوة إلی العمل للدنیا بالشکل المتعارف علیه، الورع و تجنب المحرمات و الشبهات، الاعتدال في ممارسة العبادات و التأکید علی کثرة الاستغفار، بشاشة الوجه و مخالطة الناس؛ ب– ما ینفع في تمییز هذه المدرسة: النهي عن کتابة الحدیث، معاداة الخوارج و القدریة و علاقة محدودة بالمرجئة، و فیما یتعلق بالنقطة الأخیرة یجدر القول إن مدرسة أهل الرجاء کانت لها مشترکات في التعالیم مع مدرسة المرجئة. ربما کان هذا الأمر هو الذي جعل بعض رجال هذه المدرسة علی علاقة بشخصیات من المرجئة مثل طلق بن حبیب البصري (ظ: م.ن، 7(1)/ 166).
کانت مسألة إیمان مرتکب الکبیرة قد أنتجت في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ثلاثة مواقف مختلفة و ثلاث فرق فکریة: الأولی المحکِّمة الذین کانوا یعدون ارتکاب الکبیرة مدعاة للکفر، و الفرقة الأخری من أهل الجماعة التي کانت بتجنبها تکفیر الفاسق، تعتبر الإیمان ذا درجات و قابلاً للزیادة و النقصان، و الثالثة المرجئة الذین لم یکونوا یعتبرون ارتکاب الکبیرة، مؤدیاً إلی زوال الإیمان. و یرون الإیمان حقیقة لا تقبل الزیادة و النقصان في العمل (ظ: ن. د، 4/ 518). و کانت الفرق المتطرفة من المرجئة تعتقد بأن أیة معصیة لاتؤدي إلی الخسران مع وجود الإیمان، و أن المؤمن لن یکون مستحقاً لدخول جهنم مهما ارتکب من المعاصي. لکن کانت في الکوفة بشکل خاص فرق معتدلة من المرجئة یعتقدون بالإرجاء في حدود ترک «الاستثناء في الإیمان» و ما یترتب علی ذلک من نتائج منطقیة، و کانوا یعارضون الآراء المتطرفة في التعامل مع المعصیة (ظ: ن.ص؛ أیضاً أبوعبید، الإیمان، 22). و عندما عرض الحسن بن محمد بن الحنفیة من تابعي المدینة فکرة الإرجاء بشکل مدون لأول مرة واجه معارضة اثنین من تابعي الکوفة زاذان و أبي صالح میسرة (ظ: ابن سعد، 5/ 241). و عندما وجدت هذه النظریة أتباعاً لها في الکوفة جوبهت بمعارضة علماء الکوفة الکبار مثل إبراهیم النخعي (ظ: م.ن، 6/ 191–192).
و في الحقیقة فإنه إلی جانب الخط الأساسي للمرجئة الذي کان یبدأ بالحسن بن محمد، کان هناک نمط من التفکیر الإرجائي في تعالیم قراء الطبقة المتقدمة في الکوفة مثل أبي عبدالرحمان السلمي، کان أساسه ترک «الاستثناء في الإیمان» (ظ: أبوعبید، ن.ص). کما مال إلی هذا الشکل من الإرجاء، صنف من تابعي الجیل الثاني في الکوفة مثل إبراهیم التیمي الذي کان قبل ذلک موضع تأیید إبراهیم النخعي و الجناح المناوئ للمرجئة نسبیاً (ظ: ن، ص؛ أیضاً ابن سعد، 6/ 199–200). و الأمر الملفت للنظر هو أن مرجئة الکوفة من هذا الجیل مثل إبراهیم التیمي و ذر بن عبدالله الهمداني کانوا قصاصاً و وعاظاً مشاهیر في عصرهم. و قد عُد سعید بن جبیر أحد کبار شخصیات تابعي الکوفة من هذه الطبقة ممن حظي باتعلیم الحجازي في حلقة ابن عباس و کان له اتجاه تفسیري (بوصفه اتجاهاً نادراً في هذه المدرسة)، بشکل صریح من أهل الإرجاء (ظ: البسوي، 2/ 793؛ الخطیب، 13/ 374؛ الشهرستاني، 1/ 130). و کانت إحدی السمات المشترکة بین الرجال المذکورین في هذه الطبقة، معارضتهم لحکام الجور و خاصة الحجاج حاکم العراق (ظ: ابن سعد، 6/ 183–186، 199، 205). و إن نضال سعید ابن جبیر ضد الحجاج، سجل اسمه في التاریخ بوصفه بطلاً وقف حیاته في سبیل تحقیق العدالة (لمعرفة جلالة قدره حتی لدی الشیعة و المحکمة، ظ: الشکي، 119؛ ابن سلام، 79).
و مهما یکن فإن الجدیر بالذکر هو إن فکرة الإرجاء المعتدل لمتکن إطلاقاً تشجیعاً علی ارتکاب المعاصي و عدم تطبیق العدالة الاجتماعیة، بل إن رجال هذه المدرسة کانوا یستندون في مواعظهم في جانبها الفردي دائماً إلی التخلق بالأخلاق الفاضلة (مثلاً ظ: أبونعیم، 4/ 276–286، مخـ). و في الجانب الاجتماعي و سواء في الجیل الطلیعي، أو الأجیال التالیة کانوا دائماً دعاة إلی مقارعة نظام الجور. و في الحقیقة فإن الإرجاء المتطرف بمعنی عدم اعتبار المعصیة مدعاة للخسران مما کان له تأثیره المخرب في الأخلاق الفردیة و الاجتماعیة لمیکن له علی الإطلاق مکان في تعالیم المدرسة الأخلاقیة لمرجئة الکوفة.
و في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، کان أبرز ممثلي هذه المدرسة أبا حنیفة فقیه الکوفة الشهیر الذي تجلت مبادئ نظریاته في کتاب العالم و المتعلم. فخلال نقده للأفکار المتطرفة للمرجئة (ص 40 - 41) و استناده إلی قیمة العمل، أعلن أن جمیع المؤمنین لن یکونوا بالضرورة من أهل الجنة، و أن العصاة الذین لم یتوبوا، إما أن یذهبوا إلی جهنم، أو أن یعفی عنهم بإرادة الله (ص 97). و في نظرة فاحصة إلی تعالیم مدرسة الإرجاء یبدو أن هؤلاء بتجنبهم عزلة الخوارج و إیثارهم الابتعاد عن أسالیب الإفراط و التفریط، کانوا یبحثون عن طریق لنشر التعالیم الأخلاقیة في المجتمع. فقد کان هؤلاء في الحیاة الفردیة یعتبرون العمل بما له من قیمة، منفصلاً عن حقیقة تدعی الإیمان.و من غیر أن یعدوا العاصي بالجنة کانوا یعتبرونه مؤمناً و أخاً في الدین لبقیة أفراد المجتمع . و کان بإمکان نظریة الإرجاء بشکلها هذا خلال تلک الحقبة المفعمة بالاضطرابات و ظهور تیارات مسلحة مختلفة بدوافع شتی دینیة – سیاسیة جمعت في جانبها الاجتماعي الناس حول محوري ««الأخوة في الإیمان» و «الولایة» دون أن تؤدي بهم إلی الفساد في جانب الأخلاق الفردیة (ظ: ن.د، 4/ 521؛ أیضاً للاطلاع علی دور أبي حنیفة و عالم هذه المدرسة الآخر مسعر بن کدام في ثورة إبراهیم الحسني، ظ: أبوالفرج، مقاتل، 240 و ما بعدها).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode