الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / اتحاد العاقل و المعقول /

فهرس الموضوعات

اتحاد العاقل و المعقول

اتحاد العاقل و المعقول

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/25 ۲۱:۰۸:۳۴ تاریخ تألیف المقالة

وتتسع نظریة اتحاد العاقل والمعقول التي نجدها لدی أفلوطین، من قبل تلمیذه البارز فرفوریوس (232- ح 304م)، ویتم التأکید علیها. وهو لم یکن التلمیذ والصدیق البارز الوحید لأفلوطین وحسب، بل إنه کان أیضاض جامع التاسوعات و منظمها و منقحها، وکذلک مؤلف سیرته الکاملة. ولم یتبق من بین تألیفات فرفوریوس الغزیرة سوی بضعة آثار ضاعت أکثرها. وأهم مصدر لنا حول آرائه المتعلقة باتحاد العاقل والمعقول رسالة صغیرة تشتمل علی 3 أقسام تنقسم إلی أجزاء، ویبدو أنها مجرد قسم کبیر من رسالته التي تحمل عنوان «مساعدات للتوصل إلی المعقولات». وقدنشر النص النقدي الیوناني لهذه الرسالة في 1907م بتحقیق مُمرت. ومن جهة أخری، یصرح ابن الندیم أنه کانت هناک رسالة باسم کتاب العقل والمعقول لفرفوریوس في الترجمة العربیة القدیمة (ص 313). ویبدو أنها نفس الرسالة التي رفض ابن سینا بشدة في معرض الإشارة إلیها نظریة اتحاد العاقل والمعقول کما وجدها في تلک الرسالة. ولکن هذه الرسالة لم تکن الترجمة العربیة لرسالة فرفوریوس الأصلیة، بل کانت کما أثبت مولر في الترجمة الألمانیة لقسم من الفهرست لابن الندیم (ص 25؛ قا: بیده، 106؛ برئیه، المقدمة، I/22)، رسالة متأخرة ومختلقة ومنسوبة إلیه. ویؤکد فرفوریوس في هذه الرسالة علی ملاحظتین، ویعتبرهما في الحقیقة متلازمتین: الأولی الاکتفاء الذاتي، والاستقلال وتقدم «الواحد» والتي تعتبر لدی أفلوطین المصدر الأول للوجود؛ والأخری اتحاد العاقل مع معقولاته. وتأکید فرفوریوس علی الملاحظة الثانیة أساس لإثبات الملاحظة الأولی. ویتمثل استدلال فرفوریوس في أن القوی العارفة التي أودعت فینا هي عادة الحس والتخیل و العقل. والقوة التي تستخدم الحس تبحث الأشیاء الخارجیة من خلال إلقاء نفسه علیها، ولکنها لاتتحد معها، بل إنها تتلقی بعض التأثیرات منها من خلال تطبیق قوة نفسها علیها. وعلی هذا الأساس، فعندما تری العین الشيء المرئي، فإنها لایمکن أن تکون قد اتحدت مع ذلک الشيء، فلو لم تکن هناک فاصلة بینهما، لما کان بإمکانها أن تری. وهذا الدمر یصدق أیضاً علی الحواس الأخری. ومن هنا یتضح أن الحس و المُحِس یلقیان دوماً علی شيء خارجي کي یستطیعا أن یدرکا شیئاً محسوساً. وهکذا الحال بالنسبة إلی الخیال، أو التخیل، فهما متعلقان دائماض بشيء خارجي، و هما بهذا التوسع لذاتهما یمنحان القوام لما هو خارجي، ویحصلان علی مثال له، کما أن هذا الاتساع نحو شيء خارجي هو دلیل علی أن هناک اتحاداً، دو تشابهاً یظهر بین التخیل و ذلک الشيء. ولکن إدارک العقل لیس کذلک، بل إن هذا الأمر یحدث من خلال المیل إلی نفسه و بحثها، ذلک لأن العقل لایستطیع أن یتعقل أي شيء بالانفصال عن نفسه کي یستطیع بحث قواه، وکي یکون عین هذه القوی. وبذلک، فکما أن الحس مع المحسوس، فإن العقل مع المعقول أیضاً، ولکن الحس ومن خلال توسیع نفسه إلی الأشیاء الخارجیة یدرک في المقابل أن محسوسة کائن في المادة، ولکن العقل یبحث المعقول ومن خلال التجمع في نفسه، ولیس بالاتساع إلی شيء خارجي. وبناء علی ذلک فمن الواضح أن المعقولات والعقل یجب أن یترابطا. و أما إذا کانت المعقولات في العقل، فستکون النتیجة أن العقل کلما بحث معقولاته، فإنه یبحث کلاً من المعقول و نفسه کلیهما (فرفوریوس، القطعة 43). وفي النهایة یوسع فرفوریوس هذه الاستدلالات ویستنتج أن العقل والمعقول شيء، والحس والمحسوس شيء آخر، فالعقل والمعقول مترابطان کالحس و المحسوس، ولکن لا الحس یستطیع أن یدرک نفسه بنفسه، ولا المحسوس، وأما المعقول الذي هو مرتبط بالعقل، والعقل الذي هو أیضاً مرتبط بالمعقول، فإنهما لایمکن أن یدرکا بالإدراک الحسي أبداً، ولکن العقل معقول العقل، وإذا کان المعقول عقلاً فإن هذا یعني أنه معقول نفسه. وعلی هذا فإذا کان العقل شیئاً معقولاً ولامحسوساً، فإنه إذن سیکون معقولاً، وأما إذا کان العقل معقولاً للعقل فسیکون عاقلاً أیضاً. وبناء علی ذلک، فإن العاقل هو نفسه المعقول (بشکل متزامن)، وجمیع العاقل متحد مع جمیع المعقول. والعقل بسیط ولایقبل التقسیم، وجمیعه معقول لجمیعه، ولایشتمل في نفسه علی أي شيء غیر عاقل؛ والعقل یدرک کل شيء بشکل متزامن، ولایدرک شیئاً الآن والآخر فیما بعد. وبذلک فإن إدراکه الماضي ولامستقبل له، و هو قائم علی «الآن» المستمرة والمعدومة الزمان (م.ن، القطعة 44). ویمکن إرجاع آراء فرفوریوس حول اتحاد العاقل و المعقول علی أساس مبادئ أفلوطین، في النهایة إلی دافعها الأصلي کما نجد ذلک لدی أرسطو.

ولپروکلوس (410-485م)، آخر الوجوه المضیئة للمدرسة الأفلاطونیة الحدیثة وشارح تألیفات أفلاطون، موقف غامض حول قضیة اتحاد العاقل والمعقول خلافاً لأفلوطین. فهو یتوسع في القضیة أکثر مما نراه لدی أفلوطین فیما یتعلق بتقسیم «الأصول الثلاثة» للوجود وذلک عندما یتطرق إلی مبحث العقل الإلهي ومعقولاته. وقد وردت دراساته في هذا المجال في کتابیه «الإلیهات الأفلاطونیة» (الکتاب V، الرسالة 1، الفصل 5) و «شرح لعی تیمایوس لأفلاطون» (الکتاب I، القطعة 321، السطر 24 ومابعده، الکتاب III، القطعة 100، السطر ومابعده). وهو یسمي عند ذکره لـ «الأصول الثلاثة» بعد «الوجود، أو الموجود» أعلی مرتبتین للوجود، أي «الموجود الموجود حقاً» و«الحیاة» بـ «المعقول الأول»؛ في حین أن پروکلوس یسمیه في موضع آخر «المعقول الإلهي» («عناصر الإلهیات»، القضیة 161) الذي لایتحد مع العقل في الرتبة، بل یکمله دون أن یقل تفوقُه في الوجود. و هذا «المعقول الإلهي» معقول باعتبار العلة فقط، أي أنه المصدر الذي یکتسب العقل الأعلی مضمونه منه، ففي موضع آخر («تفسیر پارمنیدس لأفلاطون»، 900، السطران 25-26) یقال صراحة إن العقل الأعلی «لیس له أي معقول مقدم علی ذاته». ویضع پروکلوس «العقل المعقول» فيمرتبة أدنی، یکون فیها العاقل والمعقول «متحدین في العدد» کالعقل لدی أفلوطین. وهذه أدنی مرتبة لأصول المعقول الثالاثة، ویبدو أنها نفس «العقل الأول» الذي یشار إلیه في «عناصر الإلهیات» (القضیة 160)، ویسمیه پروکلوس في موضع آخر «العقل الأوحد» (ن.م، قضایا 101, 166, 170). والعقل الإلهي متوحد و کامل، و هو العقل الأول، و هو یوجد العقول الأخری من ذاته. و هنا یقول پروکلوس حول «العقل المعقول»: إن «أکثر العقول أولیة» یفکر في نفسه فقط، و العقل و المعقول فیه متحدان عدداً، في حین أن کلاً من العقول الأخری تفکر (تعقل) بشکل متزامن بنفسها و العقول المقدمة علیها، فالبعض من معقولها هو وجود نفهسا، والبعض هو ما اکتسبت وجودها منه (ن.م، قضایا 160, 167، قا: تفسیراتها، 285-286). یقول پروکلوس في موضع آخر حول العقل بالفعل: ن کل عقل کهذا العقل یعلم أنه یفکر و کلن لیس التفکیر فينفسه شيء، والتفکیر بأنه یفکر شيء آخر، أي أنه و من خلال العلم بهذا الأمر لایعلم فقط أنه یفکر في شيء، بل إنه یعلم أیضاً أنه یفکر. وعلی هذا فإنه یعلم بشکل متزامن أنه معقول، وأنه في نفس الوقت عاقل، کالمفکر في نفسه (ن.م، القضیة 168).

 

آراء الفلاسفة المسلمین

طرحت قضیة اتحاد العاقل والمعقول بین الأوساط الفلسفیة الإسلامیة عندما ترجمت أولاً رسالة أرسطو «في النفس» (ترجمة إسحاق بن حنین)، ثم بعض شروح الکتّاب الیونانیین علیها.

والفیلسوف المسلم الأول الذي یشیر إلی اتحاد العاقل و المعقول هو یعقوب بن إسحاق الکِندي (تـ ح 259هـ/873م). ونجد بین آثاره رسالة بعنوان «في العقل» کانت قد تُرجمت في القرون الوسطی إلی اللاتینیة أیضاً. ومصدر نظریته أقال أرسطو وشراحه. فبعد أن یشیر إلی العقل بالقوة والعقل بالفعل وأن أي شيء بالقوة لایتحول إلی شيء آخر، إلا بواسطة الشيء الذي نفسه نفس ذلک الشيء ولکن بالفعل، یقول: إن النفس بالقوة عاقلة، وتصبح عاقلة بالفعل بمساعدة العقل الأول عندما تتصل به. ولکن عندما تتحد الصورة العقلیة مع النفس، فالنفس لیست سوی تلک الصورة العقلیة، لأنها لاتقبل التقسیم کي لاتکون هناک مغایرة، وبناء علی ذلک، فعندما تتحد الصورة العقلیة مع النفس، فستکون هاتان الاثنتان شیئاً واحداً، فالنفس عاقلة ومعقولة في الوقت ذاته، والعقل والمعقول شيء واحد من حیث النفس (الکندي، 1/356).

ولأبي نصر الفارابي (تـ 339هـ/ 950م)، الفیلسوف المسلم البارز الآخر، رسالة تحت عنوان رسالة في العقل. فهو یقول فیها بعد ذکر التقسیمات الأربعة للعقل (والتي یرجعها إلی أرسطو)، أي العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال: العقل بالقوة هو النفس، أو جزء منها، أو قوة من قواها ویستطیع أن ینتزع الماهیات، أو صور الموجودات دون موادها، بحیث تصبح تلک الصور صورة، أو صوراً للنفس التي لامادة لها. وهذه الصور المنتزعة من المادة والتي أصبحت صوراً في العقل بالوقة هي المعقولات نفسها. و هذا العقل لایتمیز عن صور المعقولات، بل إنه هو نفسه یصبح المعقولات ذاتها، مثله في ذلک کمثل کومةالشمع التي تتشکل بنقش لایشاهد علی سطحه و حسب، بل في جمیع طوله و عرضه و عمقه أیضاً، بحیث یصبح ذلک الشمع ذلک النقش نفسه، و تتحد ماهیاتهما و الآن فلأن صور الموجودات حصلت في العقل بالوقة کما قیل، فإنها تتحول إلی العقل بالفعل، وتتحول المعقولات المنتزعة من المادة إلی معقولات بالفعل لها، ویصبح العقل بالقوة عقلاً بالفعل بواسطة المعقولات بالفعل، وهذه المعقولات بالفعل، والعقل بالفعل هي شيء واحد عیناً، وما نقوله من أن ذلک الذاتي عاقل، فإن هذا یعني أن تلک المعقولات أصبحت صوراً له، فیما أصبح هو نفسه نفس تلک الصور عیناً. فعندما یقال: إن ذلک عاقل بالفعل، وعقل بالفعل، ومعقول بالفعل، فإن کل ذلک بمعنی واحد، ولمعنی واحد عیناً (الفارابي، 12-16).

وقد تحدث ابن سینا في مواضع مختلفة من آثاره عن هذه النظریة، ولکنه أثبت أن لیس له في هذا المجال وجهة نظر متوازنة. وهو یشیر في المبدأ والمعاد في الفصل المتعلق بکون واجب الوجود «معقول الذات وعقل الذات»، إلی وحدة العقل والعاقل و المعقول. وبعد أن یبحث في العقل بالقوة والعقل بالفعل، یستنتج أن ارتباط الصورة العقلیة بالعقل بالقوة لایشبه الارتباط بین الصورة الطبیعیة ومادة (الهیولی) الطبیعیة، بل عندما تتصل الصورة العقلیة بالعقل بالقوة، فإن ذاتیهما تتحدان وتصبحان شیئاً واحداً، وهنا لم یعد یوجد قابل ومقبول ذاتاهما متمایزتان، وفي هذا الحین یکون العقل بالفعل في الحقیقة هو الصورة المجردة المعقولة نفسها. ولاتوجد ضرورة،لأن یعقل کل شيء معقول بواسطة شيء غیر نفسه، ذلک، لأن العقل بمجرد أن یجد نفسه مستحقاً للتعقل ضرورةً، فإن إدراکه هذا لیس سوی التعقل للنفس. وبناء علی ذلک، فعندما تکون هناک ماهیة مجردة منالمادة وعوارضها، فلاشک في أنها معقولة بالفعل ذاتاً، وفي نفس الوقت عقل بالفعل. وبالتالي فإنها هي نفسها تعقل نفسها، ولاحاجة لها في کونها معقولة إلی عاقل غیرها، إي إنها عقل وعاقل ومعقول في ذات الوقت (ص 9-10). ومن جهة أخری، یقول ابن سینا في حواشیه علی أقسام من کتاب «في النفس» لأرسطو حول مایقال من أن العقل والعاقل والمعقول شيء واحدک إن هذا یصدق علی العقل فقط، وأما في غیر هذا المجال فإن کلاً من العقل والعاقل والمعقول، وتصور العقل عن المعقول یمثل شیئاً مستقلاً. ثم یضیف مشیراً إلی قول أرسطو: إن معنی کون العلم والمعلوم شیئاً واحداً هو صورة الشيء المعلوم التي تنقش في ذهن العالم کما تنقش الصورة المحسوسة في الحس («التعلیقات...»، 105؛ قا: أرسطو، «في النفس»، الکتاب III، الفصل 430a, 4، السطران 5-6).

ویطرح ابن سینا مسدلة اتحاد العاقل والمعقول بالشکل التالي أیضاً وذلک في فصل علم لانفس من کتاب الشفاء، وهو إن النفس تتصور ذاتها، وعن طریق هذا التصور تصبح عقلاً وعاقلاً ومعقولاً، ولکن عندما تتوصر النفس المعقولات المجردة من المادة، فإن الأمر لایکون علی هذه الشاکلة. ومایقال من أن ذات النفس تتحول إلی تلک المعقولات بذاتها، فإنه محال ولایمکن فهمه؛ فکیف یصبح شيء شیئاً آخر، ذلک لأنه إذا خلع صورة، ثم لبس صورة أخری، وکان بالصورة الأولی شیئاً، وبالصورة الثانیة شیئاً آخر، فحینئذ فإن التشيء الأول لم یصبح الشيء الثاني في الحقیقة، بل إن الشيء الأول یکون بذلک قد زال ولم یبق منه سوی موضوعه، أو جزء منه. وإن لم یکن الأمر کذلک، فإن علینا أن نقولک إنه عندما یصبح شيء شیئاً آخر فحینئذ فإن ذلک التشيء إما أن یکون موجوداً، أو معدوماً، فإن کان موجوداً، فهما إذن موجودان لاموجود واحد. أما إذا کان معدوماً، فإن هذا الشيء الثاني سیکون شیئاً معدوماً أیضاً، لا أن یکون الشيء موجوداًآخر، فهذا الکلام غیرمعقول. أما إذا انعدم الشيء الأول، فإنه لایکون بذلک قد أصبح شیئاً آخر، بل إنه یکون بذلک قد انعدم و تحول إلی شيء آخر. فکیف یمکن للنفسأن تصبح نفس صور الأشیاء؟ ثم یضیف ابن سینا قائلاً: «وأکثر ماهوّس الناس في هذا هو الذي صنف لهم إیساغوجي (إشارة إلی فرفوریوس) وکان حریضاً علی أن یتکلم بأقوال مخیلة شعریة صوفیة یقتصر منها لنفسه ولغیره علی التخیل، ویدل أهل التمییز علی ذلک في العقل والمعقولات وکتبه في النفس» (الشفاء، 212-213).

وقد کرر ابن سینا في الإشارات و التنبیهات (3/267-269، 271) مایشبه هذه الاستدلالات مع قلیل من التغییر في بیانه، وهاجم فرفوریوس. ویری ابن سینا في إلهیات الشفاء (ص 357) أن اتحاد العاقل والمعقول صحیح فیما یتعلق بواجب الوجود، ویستدل علی ذلک بأن ذات الله هي عقل و عاقل و معقول، ولکنها لیست أشیاء متکاثرة، فلأن الله هویة مجردة فإنه عقل، و هو معقول ذات نفسه باعتبار أن هویته المجردة لذاته، و هو عاقل بذات نفسه باعتبار أن ذاته تشتمل علی هویة مجردة لنفسها، ذلک لأن المعقول شيء ماهیته المجردة لشيء. والعاقل هو ما اشتمل علی الماهیة المجردة للشيء و عندما نقول في هذا التعریف: «الشيء الذي تحدث ماهیته المجردة للعاقل...»، فإن قصدنا مطلق الشيء سواء کان العاقل نفسه، أم شیئاً آخر. وبذلک فإن الله (الأول) عاقل باعتبار أن ماهیة مجردة قد حصلت له، ومعقول باعتبار أن ماهیته المجردة لشيء، وهذا الشيء هو ذاته نفسها؛ فهو إذن عاقل، لأن ماهیته المجردة لشيء هو ذاته نفسها. وفي نفس الوقت یقول ابن سینا في موضع آخر في صدد المقارنة بین الإدراک الحسي و العقلي: إدراک العقل أمام المعقول أقوی من إدراک الحس في مقابل المحسوس، لأن العقل أمر باق، ویعرف الکلي ویدرکه، ویتحد معه، ویصبح نفسه بنحو من الأنحاء (ن.م، 369،قا: النجاة، 246).

ویشیر ابن سینا في أحد آثاره الأخیرة – الذي یتضمن أجوبته علی الأسئلة التي طرحها تلامذته في مجلس درسه، والتي کتبها لمیذه البارز بهمنیار – في عدة مواضع إلی مسدلة اتحاد العاقل و المعقول، ویرفضها بإصرار. یقول ابن سینا في هذا المجال مشیراً إلی عقل الله: إن کل شيء یتعلقل ذات نفسه هو عقل و عاقل و معقول، وهذا الیصدق إلا علی الله، لأن ذاته في الدعیان له، و مجردة، و هو علیم بها دائماً، وذاته حاصلة له دوماً، ومعقولة له دائماً؛ وذاته عقله لذاته، فهو إذن معقول. وأما ما یقال من أننا إذا عقلنا شیئاً فإننا نصبح ذلک المعقول نفسه فإن محالف فهذا الکلام یستلزم أننا عندما نتعقل الله فإننا نتحد به و نصبح هو؛ و علی هذا فإن هذا الحکم لایصدق إلا علی الله، ذلک لأنه یتعقل ذاته، وذاته هي مبد المعقولات، وهو یتعقل الأشیاء من ذاته (التعلیقات، 159).وفي موضع آخر یقول: إن عقلیة الله ذاته، و معقولیتها شيء واحد له، و هو عاقل و معقول و عقل؛ فالعقل هو في الحقیقة المعقول نفسه (ن.م، 190).

وتتبعاً للتسلسل التاریخي لمسألة اتحاد العاقل والمعقول، تجب الإشارة أیضاً إلی آراء شهاب‌الدین السهروردي (شیخ الإشراق). فهو یقول في أحد مؤلفاته – والذي سعی فیه لأن یستعرض قبل کل شيء آراء المشائین، وینتقدها أحیاناً – في المبحث المتعلق بالعلم والإدراک: یری فریق أن الإدراک لدی المدرِک هو أن یصبح هو نفسه نفس صورة ذلک الشيء؛ وهذا باطل، لأننا نعلم أن شیئاً بعینه لایصبح شیئاً آخر، لأن ذلک الشيء الأول إن بقي بعد حصول الصورة الثانیة، فهما إذن شیئان؛ وأما إذا أصبح الشيء الأول باطلاً، والشيء الثاني حاصلاً، أو بقي الأول ولم یحصل الثاني، فإن أحدهما لایکون بذلک قد أصبح الآخر. وهکذا الحال بالنسبة إلی النفس أیضاً، أي إذا حصلت صورة ولم تکن هناک نفس، أو بقیت النفس ولم تکن هناک صورة، فلایکون بذلک قد حدث إدراک؛ أما إذا بقي الاثنان کلاهما، فهما إذن شیئان. ثم الجوهر الشاعر بذاته نک لیس مما یتجدد کل وقت، بل هو شيء واحد ثابت قبل الصورة ومعها وبعدها، والصورة امر یحصل مع بقائه، فإنک أنت أنت مع الإدراک ودون الإدراک، فلامعنی للاتحاد (ص 474-475).

وهنا من المناسب أن نشیر أیضاً إلی رأي أحد العلماء الصوفیین. فصدرالدین القونوي (تـ 673هت/1274م)، التلمیذ البارز لمحیي‌الدین ابن عربي، والذي کان أیضاً یتمتع بحس فلسفي، یشیر في أحد مؤلفاته إلی اتحاد العلام و المعلوم (علماً أن المتصوفة یتجنبون غالباً استخدام مصطلح «العقل» الفلسفي). ویطرح صدرالدین الرأي المتمثل في أن أعلی درجات العلم أو المعرفة بالشيء – مهما کان، و مهما کان الصوفي، أو العالم المرتبط به، وسواءکان المعلوم شیئاً واحداً، أم أشیاء کثیرة – تتحصل من خلال الاتحاد بالمعلوم، وعدم مغایرة العلام له، لأن سبب عدم العلم بالشيء الذي یحول دون کمال إدراکه، لیس سوی الغلبة والحکم بأن کلاً من ذینک الاثنین سوف یتمایزان بذلک؛ ذلک لأن هذا البعد معنوي، والبعد أینما کان یحول دون کمال إدراک ذلک الشيء البعید. والتفاوت بین درجات العلم بالشيء هو في مستوی التفاوت في غلبة حکم ذلک الشيء، وبذلک یتحد العلام بالمعلوم (رسالة النصوص، 44، قا: النفحات، 40).

ویعتبر صدرالدین الشیرازي (الملاصدرا، تـ 1050هـ/ 1640م) آخر فیلسوف کبیر تناول في العصور الأخیرة مسألة اتحاد العاقل و المعقول، ودافع عنها باستمرار وإصرار، فبعد أن یفصل أولاً في أحد المواضع أن مرتبة العلام بالشيء هي عیناً نفس مرتبة المعلوم من حیث إنه عالم به، یشیر إلی اتحاد العاقل والمعقول ویقول: فرفوریوس هو أول من اتضح له هذا المعنی. ویبدو أن صدرالدین کان یمیل إلی فرفوریوس، بحیث إنه یثني علیه في عدة مواضع من مؤلفاته و یعتبره من کبار الحکماء المتألهین والراسخین في العلم و التوحید (ظ: الأسفار ...، 5/242). وهو یقول: إنه کان یعرف عدداً کبیراً من المفکرین المسلمین کانوا یتمتعون بالعلوم المتحصلة من الکشف والبرهان، وقد اعتنق غالبیتهم نظریة فرفوریوس ومؤیدیه، وحتی ابن سینا نفسه فإنه تخلی في بعض کتبه عن إنکاره اتحاد العاقل والمعقول [!]؛ وأما صدرالدین فإنه لم یجد في زمانه سوی شخص واحد سنحت له دراسة هذه المسألة (رسائل، 318). وهو یقصد من ذلک الشخص نفسه، ذلک لأنه یقول بصراحة في الأسفار: إن مسألة اتحاد العاقل والمعقول هي من أعقد المسائل الفلسفیة التي لم یفتح مغالقها أيّ من علماء الإسلام حتی ذلک الزمان، و هو – اعتباراً من ابن سینا و حتی العلماء بعده – لم یجد أيّ شخص بحث هذه المسدلة بشکل بعتد علیه. ثم یضیف أنه تضرع إلی الله في أن یفتح هذا الباب أمامه، فاستجب دعاؤه في نفس اللحظة التي کان یکتب فیها ذلک الفصل، ومنحه الله علماً جدیداً حول هذه المسألة (3/312-313).

ویبدأ الملاصدرا استدلالاته منأن جمیع الفلاسفة أذعنوا إلی هذه الملاحظة و هي أن الصورة المعقولة بالفعل وجودها في نفسها ووجودها للعاقل شيء واحد من جهة واحدة بلااختلاف، وکذا المحسوس بما هو محسوس وجوده في نفسه و وجوده للجوهر الحاس شيء واحد؛ فلو فرضنا أن المعقول بالفعل أم روجوده غیر وجود العاقل حتی یکوناذاتین موجودتین متغایرتین لکل منهما هویة مغایرة للأخری ویکون الارتباط بینهما بمجرد الحالیة و المحلیة کالسواد والجسم الذي هو محل السواد، لکان یلزم حینئذ أن یمکن اعتبار وجود کل منهما مع غض النظر عن اعتبار صاحبه، لأن أقل مراتب الاثنینیة بین شیئین اثنین أن یکون لکل منهما وجود في نفسه؛ لکن الحالفي المعقول بالفعل لیس هذا الحال، إذ المعقول بالفعل لیس له وجود آخر، إلا هذا الوجود الذي هو بذاته معقول لابشيء آخر؛ وکون الشيء معقولاً لایتصور إلا بکون شيء عاقلاً له؛ فلو کان العاقل أمراً مغایراً له، لکان هو في حد نفسه مع قطع النظر عن ذلک العاقل غیرمعقول، قلم یکن وجوده هذا الوجود العقلي؛ فإن الصورة المعقولة من الشيء المجردة عن المادة سواء کان تجردها بتجرید مجرّد إیاها عن المادة، أم بحسب الفطرة، فهي معقولة بالفعل أبداً سواء عقلها عاقل من خارج، أم لا. و علی هذا، فإن الوجود المعقول بالفعل هو عین معقولیته، دون أن یکون محتاجاً إلی عاقل آخر یتعقله؛ فإذن هو عاقل بالفعل، کما إنه معقول بالفعل، وإلا لزم انفکاک المعقول بالفعل عن العاقل بالفعل، في حین أننا نعلم أن المتضایفین في الوجود ودرجة الوجود هما متساویان و متشابهان بحیث إذا کان أحدهما بالفعل، کان الآخر بالفعل أیضاً، وإن کان ذاک بالقوة، کان الآخر کذلک أیضاً (ن.م، 3/313-316). ثم یبحث استدلالات ابن سینا في إبطال اتحاد العاقل والمعقول الواحد بعد الآخر، ویعمد إلی نقضها وردها، ویشیر أخیراً إلی هذه الملاحظة وهي أنه علی الرغم من أن ابن سیناکان یصر علی إنکار اتحاد العاقل والمعقول، فإنه استدل علی صحته في کتاب المبدأ والمعاد، ثم یضیف قائلاً: إنه لیس معلوماً فیما إذا تحدث ابن سینا في ذلک الکتاب بنفس أسلوب المشائین، أمأن الحق قد أضاء قلبه، فآمن به. وفي الختام یستنتج الملاصدرا أن بحث هذا الموضوع کان من نصیب المتقدمین فقط، وأن إرثه لم یصل إلی أيّ من «العلماء النُظار» وأصحاب البحث والاستدلالل، إلا إذا کان الله قد جعل البحث في هذه المسألة نصیب بعض من «الفقراء المساکین» (ن.م، 3/334- 335).

 

المصادر

ابن سینا، الإشارات و التنبیهات، تقـ: سلیمان دنیا، القاهرة، 1968م؛ م.ن، التلعیقات، تقـ: عبدالرحمان بدوي، القاهرة، 1973م؛ م.ن، «التعلیقات علی حواشي کتاب النفس لأرسطاطالیس»، أرسطو عندالعرب، تقـ: عبدالرحمان بدوي، الکویت، 1978م؛ م.ن، الشفاء، تقـ: جورج قنواتي و سعید زاید، القاهرة، 1975م؛ م.ن، المبدأ و المعاد، تقـ: عبدالله نوراني، طهران، 1363ش؛ م.ن، النجاة، القاهرة، 1357هـ/1938م؛ ابن الندیم، الفهرست؛ أرسطو، متافیزیک، تجـ: شرف‌الدین خراساني، طهران، 1366ش؛ إسکندر الأفرودیسي، «مقالة في العقل علی رأي أرسطوطالیس» تجـ: إسحاق بن حنین، شروح علی أرسطو مفقودة في الیونانیة و رسائل أخری، تقـ: عبدالرحمان بدوي، بیروت، 1986»»م؛ السهروردي، یحیی، «المشارع والمطارحات»، مجموعة في الحکمة الإلهیة، تقـ: هانري کوربن، إستانبول، 1945م؛ صدرالدین الشیرازي، الأسفار الإربعة، طهران، 1383هـ/1963م؛ م.ن، رسائل، طهران، 1302هـ؛ صدرالدین القونوي، محمد، رسالة النصوص، تقـ: جلال‌الدین آشتیاني، طهران، 1362ش؛ م.ن، النفحات، طهران، ط حجریة؛ الفارابي، محمد، رسالة في العقل، تقـ: موریس بوریج، بیروت، 1938م؛ الکندي، یعقوب، رسائل، تقـ: محمد عبدالهادي أبوریدة، القاهرة، 1950م؛ وأیضاً:

Aristotle, De anima; id, De generatione animalium; id, Metaphysics; Barbotin, E., La Théorie aristotelicienne de l’intellect d’ après Theophraste, paris, 1954; Bidez, J., La Vie de Porphyre, Paris, 1913; Bréhier, E., introd, Ennéades; Bruns, I., «De anima liber cum mantissa, peri nou», supplementum Aristotelicum, Alexandri Aphrodisiensis, praeter commentaria, scripta minora, Berlin, 1887, vol. II; Müller, A., Die griechischen Philosophen in der arabischen Überlieferung, Leipzig, 1873; Plato, Kratylos; id, Nomoi; id, Phaidon; id, Politia; id, Timaios; Plotinos, Ennéades, texte établi et tr. E. Bréhier, Paris, 1967; Porphyrios, Aformai pros ta noèta (sententiae ad intelligibilia ducentes), ed. B. Mommert, Leipzig, 1907; Proclos, The Elements of Theology, a revised text with translation, introduction and commentary by E. R. Dodds, Oxford, 1963; id, In Platonis Parmenidem commentarii, ed. G. Stallbaum, Leipzig, 1840; id, In Platonis Theologiam libri sex, ed. E. Portus, Hamburg, 1618; id, In P;atonis Timaeum commentarii, ed. E. Diehl, Leipzig, 1903-1906; Themistios commentaria in Aristotelem rgaeca, Berlin, 1899, vol. III.

شرف‌الدین خراساني (شرف)/ خ.

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: