ابن الفرات
cgietitle
1442/11/29 ۱۹:۰۳:۱۸
https://cgie.org.ir/ar/article/234175
1446/10/2 ۱۷:۰۷:۴۷
نشرت
3
ومع كل هذا، فإن الخلیفة وبسبب عدم لیاقة الخاقاني الوزیر وعجزه عن إدارة الأمور، نقل ابن الفرات بعد قلیل إلی دار الخلافة وأعزّه ومنحه حجرة خاصة وكان یستشیره في الأمور (ابن الأثیر، الكامل، 8/65)، بحیث إنه أراد في سنة 300هـ تنصیبه وزیراً مرة أخری، لكن معارضة الأمیر مؤنس جعلته یعیّن علي بن عیسی ابن الجراح في هذا المنصب (أبو علي مسكویه، 1/25-26). وطبقاً لما ذكره الصابي (ص 30) فإن الناس كانوا علی علم بأخبار ابن الفرات حتی جمادی الآخرة سنة 300، ثم غُیر محل إقامته ولم یعرف بعد ذلك شيء عنه حتی مات هارون الشاوي سجین دار الخلافة سنة 304هـ، فجاؤا بجنازته بوصفها جنازة ابن الفرات الذي كان قد مرض قبل ذلك. وحتی ابن الجراح الوزیر الذي انطلی علیه ذلك هو الآخر، قد صلی علیه (أبو علي مسكویه، 1/40). لكن ابن الفرات كان یعمل سراً ضد الوزیر وضد معارضیه، وكان دائماً یحرض الخلیفة علی ابن الجراح بواسطة عبد الله بن فرجویه الذي نجا من حوادث عزل وسجن حاشیة ابن الفرات وحظي بمنزلة لدی الخلیفة؛ إلی الحد الذي كتب معه ابن فرجویه بإشارة من ابن الفرات إلی الخلیفة بأنه إذا عزل ابنَ الجراح ومنح الوزارة لابن الفرات فإن سیستخلص عن طریق مصادرة أموال الوزیر وموظفیه، كل یوم ألف دینار للخلیفة وخمسمائة لأمه وأمراء الجیش، وقد أید ابن الفرات ذلك التعهد أمام الخلیفة (أبو علي مسكویه، 1/43-44؛ الصابي، 35-36). وفضلاً عن ذلك، فإن صرامة ابن الجراح في تعامله مع عمال الخراج في المدن، وإلغاءه الإقطاعات وعلاوات رواتب الجنود والمقربین من الخلیفة (العیون والحدائق، 4(1)/253-254) أدی إلی إثارة سخط الأمراء وحاشیة البلاط الذین لم یألوا جهداً في السعایة به لدی المقتدر، خاصة وأن مؤنس المظفر الظهیر القوي لابن الجراح كان قد ذهب آنذاك إلی المغرب، بینما هبّ نصر الحاجب وأبو القاسم الغریب خال الخلیفة لدعم ابن الفرات (أبو علي مسكویه، 1/44)، وما أن حلّ یوم 8 من ذي الحجة 304، حتی كان علي بن عیسی ابن الجراح قد عزل وألقي به في السجن (الصابي، 310)، ثم بدأت الفترة الثانیة لوزارة أبي الحسن علي ابن الفرات.
2. الفترة الثانیة (304-306هـ). وفي نفس الیوم الذي عزل فیه ابن الجراح عین أبو الحسن علي ابن الفرات وزیراً بعد أن أمضی خمس سنوات في السجن، كما أعیدت إلیه الأملاك التي صودرت منه (القرطبي، 61). وفي هذه الفترة من وزارته امتنع عن قبول راتب الوزارة، لكنه زاد في رواتب موظفي وكتّاب الدواوین ومنح إقطاعات من كسكر والبصرة لزیدان القهرمانة (الصابي، 37)، ثم بادر بعد ذلك إلی اعتقال ومحاكمة ومصادرة أموال موظفي وكتّاب دیوان ابن الجراح، وصادر حتی أموال أبي علي الخاقاني الوزیر الأسبق وموظفیه (أبو علي مسكویه، 1/42). ولم یرد ذكر لمصادرة أموال علي بن عیسی ابن الجراح نفسه، ویحتمل أن یكون السبب في ذلك هو العهد الذي قطعه علي ابن الفرات وعلي بن عیسی ابن الجراح لبعضهما في أن لایتعرض أي منهما لنفس الآخر وماله (الصابي، 320). أما أسرة المادرائي فقد عزل أفرادها وصادر أموالهم (القرطبي، 65-66). وخلال ذلك استغل یوسف ابن أبي الساج عامل أرمینیة وآذربایجان الاضطرابات السیاسیة في بغداد، فانتزع الري وقزوین وأبهر وزنجان من محمد بن علي صعلوك وادعی أن ابن الجراح قد أرسل إلیه قبل عزله العهد واللواء بحكم تلك المناطق. ولما علم ابن الفرات أنه یكذب أرسل جیشاً لمحاریته. وحین هُزم ذلك الجیش أرسل لمحاربته مؤنساً الذي لم یحقق هو الآخر تقدماً، مما أدی إلی أن یثور أهل بغداد ویتهموا الوزیر بإتلاف أموال بیت المال وانعدام الكفاءة (م.ن، 72؛ أبو علي مسكویه، 1/45-46). ویبدو أن ابن الفرات قد وافق قبل ذلك علی إبقاء ابن أبي الساج في وظائفه السابقة شریطة أن یدفع الخراج إلی بغداد، وهذا ما جعل بعض أمراء بغداد أمثال نصر الحاجب وأبي القاسم ابن الحواري وشفیع اللؤلؤي یتهمون الوزیر بالتواطؤ مع ابن أبي الساج، مما حدا به إلی عزلهم. ثم شرع نصر الحاجب بتحریض الخلیفة ضد الوزیر عن طریق كاتبه أبي علي ابن مقلة الذي كان ابن الفرات قد رفعه (م.ن، 1/52-53).
وكان مما عرقل عمل الوزیر تمرد أفراد الجیش أوائل سنة 306هـ، بسبب تأخیر دفع روابتهم؛ وبحجة أن هذا التأخیر ناجم عن نفقات الحرب الباهضة ضد ابن أبي الساج وانخفاض موارد الدولة بسبب امتناعه عن إرسال الخراج إلی بغداد، طلب ابن الفرات إلی الخلیفة أن یقضه 200 ألف دینار لیضیف إلیها ما یعادلها ویدفع رواتب الجنود، لكن الخلیفة لم یوافق علی ذلك، فحاول ابن الفرات الذي كان قد اطلع علی ازدیاد موارد حامد بن العباس من خراج واسط أن یطلب المال منه. وبالمقابل تشاور حامد مع قسیم الجوهري المشرف علی أملاك السیدة في واسط وأعطاه مالاً كثیراً لتسعی في استیزاره وقد تحدث قسیم بهذا الشأن مع نصر الحاجب وأعطاه مالاً عن طریق حامد وأطمعه بالأموال الطائلة لأسرة الفرات وحاشیته. أدت هذه الجهود وكذلك إشاعة خبر امتلاك ابن الفرات للأموال المصادرة من الوزراء والموظفین السابقین ودعم السیدة لحامد، إلی أن یوافق الخلیفة علی عزل این الفرات (أبو علي مسكویه، 1/56-58؛ الصابي، 38-39). وخلال ذلك بلغ المقتدر أن ابن الفرات ینوي إرسال الحسین بن حمدان لمحاربة ابن أبي الساج، وحین یلتقي الاثنان سیتحدان ضد الخلیفة، فقام باعتقال ابن حمدان أولاً، وفي 27 ربیع الثاني – وفي روایة في جمادی الآخرة – لسنة 306، تم عزل ابن الفرات (القرطبي، 73؛ أبو علي مسكویه، 1/58؛ ابن الأثیر، الكامل، 8/11)، وأُلقي به في دار زیدان القهرمانة (سجن دار الخلافة)، وأوكل أمر ابنه المحسِّن وبقیة موظفي الوزیر إلی نصر الحاجب (أبو علي مسكویه، ن.ص).
عُین حامد بن العباس وزیراً وحرّض بعض الناس علی أن یشهد لدی الخلیفة بأنه مبعوث ابن الفرات إلی ابن أبي الساج، وأنه كان موكلاً بتشجیعه علی التمرد، لكن القاضطي أبا جعفر ابن البهلول ناظره وفضح المؤامرة. ثم كلف أبو علي الحسین بن أحمد المادرائي، المعروف بأبي زنبور بمحاكمة ابن الفرات، فتشدد أبو زنبور في هذه المحاكمة مع ابن الفرات وأساء معاملته، ویدوره اتهمه ابن الفرات بالخیانة في أموال بیت المال إلى الحد الذي أثار حفیظة حامد فجذب لحیة ابن الفرات. عزّ ذلك علی الخلیفة الذي كان كل مالدیه من حكومة وخلافة هما في حقیقتهما من إبن الفرات، فأمر بأن یعاد ابن الفرات إلی السجن (م.ن، 1/60-63). ولما لم یتمكن حامد بن العباس من الحصول علی اعتراف من ابن الفرات بأملاكه وبأمواله المودعة لدی غیره، طلب إلی الخلیفة أن یكل أمر الوزیر المعزول إلیه. أما المقتدر الذي طمع في أملاك ابن الفرات كما كان یخشی قتله أیضاً فلم یرضخ لطلب تسلیمه، فأرسل این الفرات إلی الخلیفة 700 ألف دینار (قا: القرطبي، 74)، فكفت أیدي الوزیر ورئیس دواوینه علي بن عیسی ابن الجراح عنه (أبو علي مسكویه، 1/64-67).
وخلال فترة حكم حامد بن العباس، كان علي بن عیسی ابن الجراح یمسك في الواقع بمقالید الأمور، ولم یبق للوزیر من الوزارة سوی الاسم (العیون والحدائق، 4(1)/279؛ أبو علي مسكویه، 1/59)، خاصة وأن تمرد أهالي بغداد بسبب الغلاء وشحة المواد الغذائیة واحتكار الغلال من قبل الوزیر (ابن الأثیر، ن.م، 8/116-117)، إضافة إلی وشایات ابن الفرات وابنه المحسن التي كانت تثیر أطماع الخلیفة عاشق المال والملذات في أموال الوزیر وموظفیه (أبو علي مسكویه، 1/87-88)، كانت تمهد الأرضیة بشكل أكبر لعزل حامد.
سعی المحسن ابن الفرات الذي كان قد أطلق سراحه بعد فترة وجیزة من اعتقاله – مستفیداً من عداء مفلح الخادم لحامد بن العباس – لنیل الوزارة لأبیه وكتب رقعة إلی الخلیفة قال فیها إنه یضمن إذا سلم إلیه أكابر أعداء ابن الفرات، أي حامد بن العباس وابن الحواري وعلي بن عیسی وشفیع اللؤلؤي ونصر الحاجب وأم موسی القهرمانة والمادرائیون، فإنه یستخرج منهم سبعة ملایین دینار (ابن الأثیر، ن.م، 8/140). وبسبب استحواذ ابن الجراح علی الأعمال وحظوته لدی الخلیفة واطلاعه علی سعایات ابن الفرات، استأذن حامد بن العباس – خلال ذلك – الخلیفة وذهب إلی أملاكه في واسط. وبعد فترة وجیزة وبأمر من الخلیفة ألقي القبض علی ابن الجراح وعُین ابن الفرات وزیراً للمرة الثالثة (أبو علي مسكویه، 1/85-88).
3. الفترة الثالثة (311-312هـ). حین استقر ابن الفرات في الوزارة أواخر ربیعالثاني 311، شرع بقمع معارضیه بمنتهی القسوة، ومصادرة أموالهم، وأطلق ید ابنه المحسن في قتلهم وإیذائهم. ورغم أن الخلیفة كان قد اشترط علی ابن الفرات أن لایمس حامداً بن العباس بسوء، إلا أن الوزیر طلب إلی حامد عن طریق مبعوثیه في واسط أموالاً طائلة، فغادر حامد واسط مع جمیع أفراد حاشیته وأنصاره. وبهذه الذریعة استطاع ابن الفرات الحصول علی موافقة الخلیفة باعتقاله، لكن نازوكاً الخادم الذي كلف بهذه المهمة لم یعثر علی حامد؛ وقد أشیع في شهر رجب من تلك السنة أن الخلیفة ینوي إلقاء القبض علی ابن الفرات وموظفیه وتسلیمهم لحامد بن العباس الذي كان یراسله سراً. اختفی أولاد الوزیر وأغلب موظفیه، حتی دخل حامد دار الخلافة بزي الرهبان، وأرسل مفلحاً الخادم شفیعاً لدی الخلیفة ووافق علی أن یناظره الوزیر بحضور القضاة والفقهاء وكتّاب الدواوین، شریطة أن یمنحه الخلیفة الأمان ولایسلمه للمحسن، إلا أن مفلحاً غیّر الرسالة، فسلم الخلیفة حامداً إلی ابن الفرات الذي أجبر أخیراً حامداً بالترغیب والترهیب علی الاعتراف بأمواله المودعة لدی الناس وأخذ منه رسالة إلی أولئك الناس لیسلموه الأموال، فحصل عن هذا الطریق علی أموال طائلة، لكن المحسن لم یكتف بذلك، بل أثار أطماع الخلیفة بشكل أكبر حتی أُسلم إلیه حامد رغماً عن الوزیر (أبو علي مسكویه، 1/94-104؛ قا: القرطبي، 112).
أما معاملة الوزیر لعلي بن عیسی ابن الجراح الذي لم یكن من الممكن اتهامه بالفساد المالي والتآمر، فكانت مختلفة، ذلك أنه بعد فترة وجیزة من بدایة الوزارة الثالثة لابن الفرات، شن أبو طاهر الجنابي القرمطي هجوماً علی البصرة وعاث فیها قتلاً ونهباً. فأرسل بُنيّ بن نفیس – المبعوث من قبل ابن الفرات إلی البصرة – أولئك المنتسبین إلی القرامطة إلی بغداد، فادعی هؤلاء أن ابن الجراح هو الذي جهزهم وشجعهم علی الهجوم علی البصرة، ولذا استدعي ابن الجراح وبأمر من الخلیفة للمحاكمة، لكنه دافع عن نفسه دفاعاً جعل القضاة یهبون للدفاع عنه (أبو علي مسكویه، 1/104-106؛ یاقوت، الأدباء، 2/146-147). ومع ذلك فقد حكم علی ابن الجراح بدفع 300 ألف دینار (الصابي، 320). ومن أجل الحصول ذلك المال بالغ المحسن ابن الفرات في إیذاء ابن الجراح إلی الحد الذي أبدی الوزیر معه استیاءه من تصرفات ابنه، وذكر بأن ابن الجراح كان قد أعانه أیام قوته (أبو علي مسكویه، 1/110؛ ابن الأثیر، 8/142)، ثم شفع له لدی الخلیفة فأرسله إلی مكة بعد توفیر نفقات سفره، ومن هناك إلی صنعاء (أبو علي مسكویه، 1/113).
وفي هذه الأثناء عاد مؤنس المظفر من حربه مع الروم إلی بغداد، وأدی انضمام قوات الخلیفة الخاصة إلیه لتسلم الرواتب المتأخرة وانتشار إشاعة تتحدث عن غضب مؤنس من قسوة ابن الفرات المتمادیة، إلی خوف الوزیر، فحث هو – بدعم من السیدة والدة الخلیفة ومفلح الخادم – المقتدرَ علی إبعاد مؤنس عن بغداد وإرساله إلی الرقة بحجة جمع الخراج والأموال الطائلة التي صودرت من المادرائیین (القرطبي، 111-112؛ أبو علي مسكویه، 1/115-116). ثم حاول ابن الفرات اعتقال نصر الحاجب ومصادرة أمواله، لكن السیدة هبت للدفاع عنه، كما بادر نصر إلی إیداع أمواله لدی من یعتمد علیهم لتكون بمأمن من المصادرة. وخلا لذلك هجم یوسف ابن أبي الساج علی أحمد بن علي شقیق محمد بن علي صعلوك وقتله. وحدث أیضاً أن ألقي القبض في دار الخلافة علی شخص مجهول مات خلال تحقیق ابن الفرات معه، فأظهر ابن الفرات أن نصراً كان متواطئاً مع أحمد بن علي صعلوك ضد المقتدر وأنه أرسل ذلك الرجل المجهول لقتل الخلیفة (أبو علي مسكویه، 1/117-119؛ ابن الأثیر، ن.م، 8/146). وقد أثر هذا الهراء في الخلیفة فأطلق ید ابن الفرات في نصر، لكن وصول نبأ هجوم أبي طاهر الجنابي القرمطي علی الحجاج وقتله وأسره لكثیر منهم (في ذي الحجة 312)، أدی إلی هیاج الناس ببغداد وثورتهم علی الوزیر وتسمیتهم له بالقرمطي الكبیر. استغل نصر الحاجب هذه الواقعة وشرع بذم ابن الفرات أمام الخلیفة ووصفه وأبا طاهر بأنهما شیعیان متواطئان، واتهمه بأنه أبعد مؤنساً عن بغداد عمداً، كما أطلعه علی رسالة تدل علی أن ابن الفرات كان یراسل أبا طاهر (ثابت بن سنان، 37-38)، فطلب المقتدر أیضاً إلی مؤنس وبنصیحة من نصر أن یعود إلی بغداد ویتوجه لمحاربة أبي طاهر (ن.ص؛ القرطبي، 120). ولما لم تهدأ ثورة الناس حتی إنهم قذفوا بالحجارة زورق الوزیر وابنه المحسن (ثابت بن سنان، 38)، فقد اختفی جمیع أبنائه وموظفیه.
وفي رسالة بعث بها إلی الخلیفة، تحدث الوزیر عن خدماته وحذره من الإنصات للوشاة، وقال إنه بذل جهده كثیراً لدفع القرامطة؛ ولما أكد الخلیفة في رده علی اعتماده علیه، ذهب الوزیر برفقة ابنه المحسن إلیه، فحاول نصر الحاجب توقیفهما، إلا أن الخلیفة رفض ذلك، وعندما غادرا دار الخلافة، اختفی المحسن علی الفور وانهمك أبو الحسن علي بأعمال الوزارة حتی الیوم الثاني (9 ربیع الثاني، وفي روایة 8 ربیع الأول: ابن خلكان، 3/442؛ ثابت بن سنان، 39)، حیث عزل وألقي القبض علیه مع ابنیه الآخرین الفضل والحسین (أبو علي مسكویه، 1/123-126)، وسُلم أبو الحسن إلی مؤنس ثم سجن في دار شفیع، بینما أُسلم أبناؤه وموظفوه المعتقلون إلی نصر الحاجب وبدأ علی الفور أعمال المحاكمة والمصادرة. ولما كان الوزیر المعزول یعلم أنه إذا نقل إلی دار الخلافة أمكنه كسب الخلیفة إلی جانبه، فقد أرسل شفیعاً الخادم وسیطاً علی أن یدفع مالاً وینقل إلی دار الخلافة، لكن الخلیفة رفض ذلك بسبب معارضة أمراء مثل هارون بن غریب ونصر الحاجب ومؤنس المظفر وشفیع المقتدري، وأسلموه إلی أبي القاسم الخاقاني الوزیر الذي أو كل بدوره أمر محاكمته وأبنائه إلی أبي العباس ابن بعدشر. فلم یتمكن هذا من استحصال مال كثیر من ابن الفرات وأبنائه، لذا عامله بقسوة متناهیة، لكن ابن الفرات الذي كان – كما یقول كاتب شفیع – رابط الجأش صبوراً في السجن امتنع تماماً عن الاعتراف بأمواله (القرطبي، 121؛ أبو علي مسكویه، 1/128-129).
وتختلف روایات المؤرخین بشأن مصادرة أموال ابن الفرات، فبینما ذكر القرطبي أن ابن الفرات لم یرضخ للمصادرة (ص 120-121)، یری أبو علي مسكویه أن ابن بعد شر استطاع بادئ الأمر أن یصادر كمیة من ماله، لكن ابن الفرات امتنع عن دفع مال فیما بعد، بعد أن بالغ ابن بعد شر في إیذائه، ویبدو أنه رغم مبالغته في تعذیبه لم یتمكن ومن معه من انتزاع مال منه أو من ابنه (قا: ثابت بن سنان، 41). وأخیراً أصدر الخلیفة أمراً بنقل ابن الفرات وابنه إلی دار الخلافة، لكن الأمراء المعارضین حرضوا الخلیفة علی الموافقة علی إعدامهما، فضربت أولاً عنق المحسن ابن الفرات الذي كان قد ألقي علیه القبض بعد أبیه بقلیل، ثم عنق أبي الحسن علي الذي كان في الحادیة والسبعین من عمره، وألقي برأسیهما في دجلة (أبو علي مسكویه، 1/137-138؛ القرطبي، 121؛ قا: ثابت بن سنان، 41-42).
كان أبو الحسن ابن الفرات الذي تسنم منصب الوزارة ثلاث مرات في أشد فترات الخلافة العباسیة حراجة؛ ورغم الآراء المتعارضة التي أبداها الكتّاب والمؤرخون فیه، كان وزیراً خبیراً وماهراً خاصة في الأمور المالیة، إلا أنه كانت تظهر علیه بعد كل فترة عزل وسجن تغیرات في خلقه وطریقته في التعامل تتناقض تماماً مع بعضها. وقد أدت هذه التغیرات إلی أن یثیر خلال وزارته عداء مجموعة من أقوی أمراء ورجال دیوان بغداد وخدم الخلیفة، رغم ما یبدو من أن تشیعه ومیوله لاستخدام العناصر الشیعیة في الأمور السیاسیة كان له الأثر في إثارة ذلك العداء.
تعامل خلال فترة وزارته الأولی بعدل وإحسان أثارا إعجاب الناس به (ابن الأثیر، الكامل، 8/19)، فقد عفا عن كثیر من أنصار ابن المعتز وكتب إلی عماله یطلب إلیهم أن یتركوهم وشأنهم، كما تحدث أمام الخلیفة في مدح الحسین بن حمدان وإبراهیم بن كیغلغ اللذین هبا لدعم ابن المعتز سنة 296هـ وسعیا في خلع المقتدر (أبو علي مسكویه، 1/14)، حتی إنه أمر بإقامة الحد علی من جاء إلیه واشیاً بمحمد بن داود ابن الجراح وزیر ابن المعتز وادعی أنه یعلم مخبأه (م.ن، 1/10-11). وقیل إنه كان یكره الوشایات إلی الحد الذي إذا كتبت له رسالة لذم أحد، فضح ذلك الواشي علی رؤوس الأشهاد بشكل لایجرؤ معه أحد بعد ذلك علی الوشایة (ابن خلكان، 3/423)، كما كتب إلی عماله في المدن یوصیهم بالتزام العدل وإسقاط الضرائب الجائرة (أبو علي مسكویه، 1/10-14)، وكان وفیاً عارفاً بجمیل أصحابه. ورؤیت أیضاً عن كرمه وعطائه الروایات (مثلاً ظ: التنوخي، نشوار، 1/57-59) التي اعتبر فیها مضاهیاً للبرامكة في كرمه (ابن الأثیر، اللباب، 2/199). وقد خصص رواتب للعلماء وطلاب العلم (ابن خلكان، 3/423)، وجعل في بیته مطبخاً یطعم منه المراجعین من أرباب الحوائج (الذهبي، سیر، 14/475)، كما اتخذ حجرة خاصة ینقل منها الناس الشراب إلی دورهم. وعلی عهد وزارته كانت ترتفع أسعار الورق والثلج والشمع لكثرة استعماله لها (أبو علي مسكویه، 1/119؛ ابن الطقطقی، 361؛ ابن خلكان، 3/422). وقیل إنه كان یشعر باللذة عند قضاء حوائج الناس، ولم یردّ أحداً علی الإطلاق (الذهبي، ن.م، 14/476). وبشكل عام فقد عُرف بعد عزله أنه كان ینفق علی خمسة آلاف شخص (الذهبي، ن.ص). ورغم ما قیل من أنه كان یمتلك 10 ملایین دینار حین تسلم الوزارة (القرطبي، 37)، إلا أن ذلك شكل أساساً للبذل والعطاء ولیس دلیلاً علی اختلاسه الأموال أو مصادرتها. كما كان أبو الحسن علي ابن الفرات یعد رجلاً أدیباً، وفضلاً عن تكریمه للعلماء وطلاب العلم، كان له اطلاع واسع علی التاریخ والحوادث التاریخیة (ظ: الصابي، 78). وقد اعتمد علیه یاقوت في الضبط الصحیح لأسماء كثیر من المناطق، ویبدو أنه حصل علیها من الرسائل والوثائق الحكومیة التي بقیت من عهده (مثلاً ظ: البلدان، 1/70-71، 73، 2/154، 221، 3/213، 731). وكان ینظم الشعر ویمنح الشعراء هدایا ثمینة، وقد مدحه أمثال الصولي وابن بسام بقصائدهم (الصابي، 86؛ ابن خلكان، 3/422). وقد ألف الصولي كتاباً بعنوان مناقب علي ابن الفرات (الأشتر، 24). كما أسس ابن الفرات مستشقی ببغداد وعین له أوقافاً (ابن شاكر، حوادث سنة 311هـ) وأسند رئاسة هذا المستشفی الذي كان خاصاً بالموظفین العاملین معه، إلی ثابت بن سنان (السامرائي، 1/606؛ العلوجي، 137).
أما في الفترة الثانیة وفي الثالثة بشكل خاص من وزارته التي رأس الدواوین فیها المحسّن ابن الفرات وانغمس بالقسوة والقتل والظلم ومصادرة أموال الناس والدیوانیین، فقد كرهه الناس إلی الحد الذي دعوه معه بالقرمطي مستغلین هجوم القرامطة علی الحجاج، ورموه بالحجارة، ولم یستطع الجنود إنقاذه من براثن الناس إلا بصعوبة (أبو علي مسكویه، 1/125-126). وربما كان ذلك ردود أفعال منه علی الأذی الذي عُرِّض له خلال عزله وسجنه (التنوخي، نشوار، 2/252-254).
أما تشیع ابن الفرات ومرافقته للشیعة فلم یكن بالأمر الخافي عن الأنظار، حیث عین رواتب للطالبیین والعباسیین (ابن الأثیر، الكامل، 8/19)، مما أدی إلی زیادة عدد الإمامیة ببغداد (إقبال، 97-98). كما كان یبعث بالأموال إلی الحسین بن روح نائب الإمام الثاني عشر(ع)، ولم یكن لأحد الجرأة علی التعرض للحسین بن روح مادام هو في السلطة، حتی قیل إنه عندما عاد القاسم بن سیما الفرغاني منتصراً بعد قمع العلویین المغاربة الذین كانوا قد هاجموا مصر، منعه ابن الفرات أول الأمر من دخول بغداد، ثم أعطاه القلیل من المال، ولم یدع الخلیفة وغیره یشملونه بعطفهم ورعایتهم (القرطبي، 68). كما قیل أیضاً إن كونه الصدیق المقرب من إسماعیل النوبختي كان له الأثر في تحقیق هدف هذا الأخیر بالحصول علی فتوی بقتل الحلاج (إقبال، 113). وقد أی میله هذا للطالبیین إلی أن یتحدث البعض عن تعمد ابن الفرات في زعزعة أركان السلطة العباسیة ویدّعوا بأنه هو الذي حرض أبا طاهر الجنابي علی التمرد ضد الخلیفة الطفل (القاضي عبد الجبار، 152)، أو أنه كان یكتب سراً للدیالمة یحرضهما فیها علی التمرد (القزویني الرازي، 61-62).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode