الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / التاریخ / ابن خلدون، أبوزید /

فهرس الموضوعات

ابن خلدون، أبوزید

ابن خلدون، أبوزید

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/7 ۰۹:۰۱:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

وابن خلدون –بصفته مبدعاً– كان مضطراً لاستعمال الكلمات العادیة بمفاهیم جدیدة. كما كان یضع أحیاناً مفردات خاصة اعتماداً علی الجذور اللغویة الموجودة، ولتمكنه من اللغة العربیة والأدب العربي. ولهذا یمكن أن نشاهد في المقدمة مصطلحات وتعابیر خاصة لایحاط بمفاهیمها إلا من خلال الفهم الكامل لفكر ابن خلدون وبیانه. ومن هذه الكلمات: العمران والعصبیة والأبنیة والوازع والخلافیة وعجم العرب والفارسیة (الحصري، 147-150، 604-608)، والملكة والثقافة والاستعداد والدولة والعمارة والبدوي وغیرها (مونتي، 123). ویحظی تعبیر «العصبیة» -من بینها– باهمیة كبیرة، وكان لابن خلدون اهتمام خاص به، بل إن كثیراً من مباحث المقدمة تدور حول محوره، لأن «العصبیة» تقع في سُلّم الحیاة البدویة في مرحلة مابعد الأسس الضروریة للحیاة الاجتماعیة، وتُعدّ من أساسیات تشكیل الدولة. وتعتمد نظریة ابن خلدون حول الدولة بالأساس علی نظریته العصبیة (ابن خلدون، ن.م، 2/592-603؛ الحصري، 333-353).

وموضوعات المقدمة منذ البدایة وحتی النهایة ذات وتیرة منظمة من حیث الترابط المنطقي، لكنها لاتخلو من التكرار وتناول بعضها في غیر محلها، كالمقدمة السادسة للفصل الأول من الكتاب الأول (1/501-550). وحول حجم الموضوعات المكررة قیل لو أن المقدمة اختُزلت إلی نصف حجمها الحالي لما تأثر أي موضوع فیها (مونتي، 122). وتعود هذه المكررات إلی كون ابن خلدون یتخذ المسألة الواحدة موضوعاً لفصول عدیدة، یبحث في كل فصل منها ناحیة من نواحیها، ومن الطبیعي أن التعرف إلی رأي ابن خلدون في المسألة المعروضة بهذا الأسلوب، لایمكن أن یتم بدراسة فصل واحد، بل یتطلب مراجعة جمیع الفصول التي تتصل بالمسألة (الحصري 262؛ نصار، 214).

ولابن خلدون آراء رائعة في المواضیع التي طرحها في المقدمة: كالاهتمام بتأثیر العوامل المادیة والمعاشیة والنفسیة والخلقیة علی الحیاة الاجتماعیة، ونظریة الدولة، والبحث في الفكر الإنساني والنفس الإنسانیة، ونقد الفلسفة والقضایا العلمیة، ودراسة ونقد أسالیب التعلیم والتربیة. وقد نجد في المقدمة بعض الأحیان آراء شبیهة بنظریة داروین (1/508-509؛ الحصري، 300-306)، وفي أحیان أخری بذوراً لمختلف المذاهب الاجتماعیة (م.ن، 242-248). وآراء ابن خلدون في القضایا الاقتصادیة كالقیمة والعمل والعرض والطلب وتناسب تحولاتها مع التطورات الاجتماعیة (ابن خلدون، ن.م، 3/1027-1058) وارتباط العلة بالمعلول، شبیهة بالنظریات الاقتصادیة عند الماركسیین المتطرفین (الحصري، 532-542؛ نصار، 223).

ومن الأمور الجدیرة بالذكر حول آراء ابن خلدون في المقدمة هي نظریته حول مراحل ظهور الدول، ونموها وسكونها وانقراضها آخر الأمر (ابن خلدون، ن.م، الباب الثالث بشكل عام، لاسیما 2/655-656) وتكرار نفس المراحل في الدول التي تحل محلها. وهذا التفكیر دفع بالبعض إلی اعتبار رأیه في حركة التاریخ رأیاً دوریاً، أي التطور والتقدم في البدایة، والتأخر والتراجع إلی نقطة البدایة في النهایة (نصار، 277). وقد سلّم البعض بهذا الرأي ویفقدان مفهوم التطور في أفكار ابن خلدون، لكنهم برّروه بأن الذي درسه ابن خلدون هو المجتمع المغربي في القرون الوسطی، أي المجتمع القائم علی التنقل والترحال الذي لایتطلع إلی شيء آخر (م.ن، 276-278). ویعارض البعض هذا الرأي ویعتقد أن ابن خلدون بقبوله المسار الدوري للتاریخ، لم یتخلف عن دراسة العلل الكامنة خلف الأحداث، بل إنه لم یسع قط إلی إثبات الفلسفة الدوریة للتاریخ ولایعتقد بمبدأ الرجعة الجبریة للتاریخ (لاكوست، 196-201). ویؤید التعمق في مباحث المقدمة ما ذهب إلیه لاكوست، ومما یدحض ما نُسب إلی ابن خلدون من الأخذ بدوریة التاریخ، اعتقاده بمبدأ تبدل وتغیر الأعصار طوال القرون المدیدة، وضرورة اهتمام المؤرخ بهذا التحول في طبیعة العالم وعادات وتقالید الشعوب وأسالیبها ومذاهبها (مقدمة، 1/398-399)، والتباین في كیفیة حكم العرب وسائر الأمم (ن.م، 2/623-625). وقد دعا إسهاب ابن خلدون في تناول موضوع انهیار الدولة في المقدمة البعض إلی اعتباره صاحب نظریة انحطاط الدولة (نصار، 271). ویساعد الاهتمام بتأكید ابن خلدون علی عزمه بتخصیص هذا المؤلَّف في «أحوال أجیال وأعراق وملل الغرب وبیان دولها وممالكها»، علی حل هذه المشكلة كثیراً.

والسؤال المهم الآخر الذي یثیره هذا التصنیف العجیب هو: هل قدّم ابن خلدون نظریة عامة في التاریخ، أم أنه توصل إلی فلسفة التاریخ؟ وهل بذل كل هذا المجهود العملي من أجل العثور علی علاج لأمراض مجتمعه؟ لقد راج كثیراً إطلاق عنوان «فلسفة التاریخ» علی المقدمة بعد معرفة ابن خلدون من جدید منذ القرن الماضي وإلی الیوم، ولهذا فالآراء التي جاءت فیها كانت علی شكل بیان للقوانین المهیمنة علی أحداث التاریخ والمجتمع. واعتبر بعض المحققین المقدمة من أهم الآثار التي ظهرت في هذا الموضوع (الحصري، 170-188؛ آرائي نژاد، 65)، وألف البعض كتباً في هذا المجال (مهدي، مخـ)، غیر أن البعض الآخر مثل لاكوست قال بصراحة: إن أسلوب ابن خلدون ورؤیته التاریخیة لیس لهما أي أساس فلسفي، وقد وضع استدلالاته علی أساس مطالعاته معلوماته التي جمعها، ولم یكن یهدف أبداً إلی ابتداع شيء باسم «فلسفة التاریخ» (ص 193).

كما أن جوّ الفلسفة الیونانیة– الإسلامیة الذي عاش فیه لم یكن لیتمخض عن فلسفة للتاریخ. ورغم أنه عدّ التاریخ جزءاً من علوم الحكمة، لكنه كان یقصد الحكمة بمعانیها المختلفة. وإذا لم یكن بالإمكان اعتبار أفكار ابن خلدون فلسفة للتاریخ، فمن الخطأ أیضاً أن نعتبرها خالیة من أي مضمون فلسفي، فالروایة التاریخیة عند ابن خلدون روایة فكریة وذات منحی علمي وبعیدة عن البیان الفلسفي. ورغم هذا فإن جهوده لم تكن عقیمة، فقد استطاع باكتشافه معاییر سلیمة لدراسة الوقائع أن یصل إلی علم الاجتماع، هذا العلم الذي منح أثره وزناً فلسفیاً كبیراً (م.ن، 133-134). وقد وجد التاریخ العربي– الإسلامي نفسه في المقدمة وأخذ ینطلق للاقتراب من الحكمة. لكن عدم ثبات التاریخ والفلسفة حول محور الإنسان یحول دون وصوله إلی الحكمة (م.ن، 257). والعامل الثاني، هو الاختیار الواعي لابن خلدون، لأنه یعتقد أن طریقة الفقهاء والعلماء وأهل الفطنة والذكاء في المجتمع، والقیاس الذي اعتادوا علیه، من العقبات التي تحول دون فهم السیاسة وكیفیات الاجتماع والعمران، ویری ضرورة عدم الابتعاد عن ساحل الواقعیات في هذه الأمور (ابن خلدون، ن.م، 4/1365-1367). ومن الأفضل أن یعتبر الاتجاه الأساسي في فكر ابن خلدون هو «الواقعیة السوسیولوجیة» (نصار، 190).

وقد دفع تأثیر تجارب الحیاة والهزائم السیاسیة التي مّر بها ابن خلدون علی فكره، البعض إلی خلق ارتباط بین هذا الأثر والموانع التي حالت دون نجاحه. وقد واجه لاكوست هؤلاء بحزم وقال إن المقدمة لم تُكتب لأهداف إصلاحیة أو إثبات قضایا عقائدیة (ص 195)، كما خطا عبارة مهدي القائلة بأن الهدف الأصلي عند ابن خلدون، شرح وبیان العوامل التي تعترض تحقیق الغایة القصوی (المثالیة) في المجتمع الذي عاصره، واعتبر هذه العبارة بعیدة عن الحقیقة، وذكر بأنه لم یكن في نیته تقدیم العلاج للمجتمع، وإنه لم یبیّن طریق الإصلاح ولم یقترح أي حل (ص 194). ویعتقد مهدي في الواقع بالعلاقة المفیدة للتاریخ لاتخاذ خطوات سیاسیة، وضرورة علم العمران لفهم التاریخ، وأن الهدف الغائي لعلم ابن خلدون الجدید والمبتكر هو توضیح علل انحطاط البلاط التي بحثها، وبیان الموانع التي تصدّ المجتمع عن النظام الأكمل، واستعراض أسباب هزیمة ابن خلدون السیاسیة من أجل حركة مستقبلیة أعمق تفكیراً (ص 365-366)، لكنه أكد علی أن ابن خلدون كان یبذل اهتمامه في المطالعة وتعلیل الوقائع الحقیقیة (ص 366)، لكي یعرف ما هي العوامل التي تحول دون تحقیق المصالح العامة أو تحظر تحققها (ص 370)، ولایعتقد أن تحدید المسار والتنبؤ بالمستقبل هو من أهداف تاریخ ابن خلدون (ص 372).

ورغم هذا یُستشف من موضوعات المقدمة أن المؤلف كان یأخذ بنظر الاعتبار في أساسه الفكري، أو في غایته من التحقیق، بیان مشاكل المجتمع ومحاولته حلّها. وهو أمر طبیعي علی ضوء النسبة القریبة بین العاقل والمعقول والعلة والمعلول. وتؤید ذلك أمثلة عدیدة كتقییمات المؤلف وأحكامه في الفصل العشرین من الباب الأول، والرابع والعشرین من الباب الثاني، والثالث والأربعین، والفصول الملحقة من الباب الثالث، والحادي عشر وحتی الخامس عشر من الباب الخامس، وملحق الفصل السابع والعشرین والفصول التي تلیه حتی الفصل الرابع والثلاثین من الباب السادس للمقدمة. ولم یؤد الاهتمام البالغ الذي أبداه ابن خلدون في المقدمة نحو مختلف جوانب وقضایا الحیاة الاجتماعیة إلی اعتباره مؤسساً ورائداً لعلم الاجتماع فحسب (الحصري، 235-236؛ آریانپور، 51)، بل إلی اعتبار المقدمة كتاباً محضاً في موضوع علم الاجتماع (لاكوست، 202)، إلا أن الحقیقة هي أن ابن خلدون لم یطالع مطلقاً الجوانب الاقتصادیة والاجتماعیة والفلسفیة بتلك الشمولیة وذلك الانتظام. وإذا ما أظهرت البحوث أن ابن خلدون یعاني من بعض العیوب علی صعید علم الاجتماع، فذلك یعود إلی أن هدفه لم یكن القیام بتحقیق اجتماعي، بل نظر في الجذور العمیقة للأحداث التاریخیة علی ضوء دراسة العوامل الاقتصادیة والاجتماعیة المتغیرة (م.ن،22-203). وقد نجح ابن خلدون بمثل هذا الأسلوب في طرح التاریخ بمعناه العلمي أولاً (م.ن، 201،203، 205-206)، وشرح العوامل المؤدیة إلی ظاهرة التخلّف من خلال دراسة المؤسسات والأوضاع الاجتماعیة في مرحلة ماقبل الاستعمار ثانیاً (م.ن، 234-239).

ومن خلال ملاحظة كافة هذه الجوانب، تعد المقدمة «بدعة فریدة» علی صعید كتابة التاریخ في العالم الإسلامي، ومبتدعها یشكل حالة استثنائیة ولاخلیفة له بین المؤرخین المسلمین (روزنثال، تاریخ، 138-139؛ زرین كوب، 71) ولا نظیر له بین كافة مؤرخي ما قبل القرن 19م علی صعید الفكر التاریخي (لاكوست، 207). وفكر ابن خلدون وطریقته المبدعة لم یُقیَّما في عصره كما ینبغي وظل كبذرة في أرض سبخة: فاعتُبر أثره علی غرار الأغاني یحتوي علی مواضیع متنوعة ومفیدة ونُعِتَ المقریزي الذي أشاد به بالمبالغة في إطرائه (السخاوي، 4/149). وبذلك ظلت أهمیة المقدمه وقیمتها الحقیقیة خافیة، حتی استرعت أهمیة مسائلها الاهتمام في عصور وأماكن أخری. وورد أن المؤرخین والكتاب الأتراك في العصر العثماني كانوا أول من وقف علی أهمیتها (الحصري، 140؛ قا: IA, V/(1)740). ورغم أن آثار ابن خلدون عُرفت في إسبانیا خلال القرن 9هـ/15م بفعل الرحلات التي قام بها إلی هذا البلد واتصاله بالكتّاب والمفكرین، غیر أن أیاً من أفكاره لم ینتقل إلی أوروبا عن طریق إسبانیا. وفي القرن 19م وبعد ترجمة أجزاء من المقدمة إلی الفرنسیة علی ید سلفستر دي ساسي في 1221هـ/1806م و1225هـ/1810م، وخاصة بعد كتابات المؤرخ النمساوي هامربورغشتال في 1227هـ/1812م التي وصف فیها ابن خلدون بـ «مونتسكیو العرب»، أثار نبوغ هذا المفكر الكبیر الإعجاب في نفوس علماء أوروبا، وأدركوا أنه قد سبق الكثیرین من أصحاب الآراء والنظریات في الغرب، ولاحظوا أن المعلومات التي كانت مقررة في تاریخ العلوم تحتاج إلی تبدیل وتحویر (الحصري، 251-252، 612-613). واستمر منذ ذلك الحین الاهتمام بآراء ابن خلدون التي جاءت في المقدمة ودراستها ونقدها، وظهور الكتب والمقالات بمختلف اللغات في مختلف الأبعاد الفكریة لهذا المفكر، سواء كانت علی شكل كتابات مستقلة، أو ضمن آثار المستشرقین والمختصین بالدراسات الإسلامیة، أو عبر الكتابات العامة ذات الصلة بالعلوم الاجتماعیة والتاریخ (م.ن،253-254).

وأدی اهتمام أصحاب الرأي بالمقدمة في مختلف فروع العلوم الإنسانیة والاجتماعیة إلی ظهور مقارنات عدیدة بین هذا المفكر الإسلامي والمفكرین الأوروبیین الذین تلوه وارتفاع أصوات الإشادة به. وفي هذا المجال نكتفي بمقولة توینبي الذي وصف المقدمة بأنها تحتوي علی إدراك وإبداع فلسفي للتاریخ، وهو بحد ذاته وعلی مدی العصور من أعظم أعمال الفكر الإنساني (الحصري، 260). كما قیل إن ابن خلدون طالع التاریخ بطریقة استطاع بها أن یعطي عنه مفهوماً تنطبق عمومیاته مع الطریقة العصریة والمفهوم الحدیث، وإن أفكاره منسجمة مع العصر الراهن (لاكوست، 223، 225)، وإن هذه المیزات البارزة هي التي تفسّر سر كلّ هذا الاهتمام بابن خلدون في هذا العصر.

لقد عرف العالم الإسلامي من جدید ابن خلدون عن طریق أوروبا، ولهذا كان فهم المسلمین للمقدمة متبایناً. فقد دحض بشدة بعض المثقفین العرب الجوانب الإیجابیة في مقدمته، كما غمط حقه بعض معاصریه المصریین بدافع الحسد، أو ألجأهم سوء تعبیر بعض الغربیین عن كتاباته إلی اعتباره بربریاً معارضاً للعرب وقالوا بضرورة إحراق كتاباته (الحصري، 151-152، 561-600). ویعدّ أبوخلدون ساطع الحصري في طلیعة من درس المقدمة بشكل علمي من العرب وأكبر مفسر لآرائه في العالم العربي. وقد انبری منذ عام 1940م إلی تقدیم أفكاره وتحلیلها خلال مقالات عدیدة. كما كتب عدد من الكتّاب والباحثین العرب خلال العقود الأخیرة مقالات وآثاراً مدروسة كثیرة حول ابن خلدون بالعربیة وباللغات الأوروبیة (ظ: GAL, S,II/342-343؛ كحالة، 5/189-191)، وازدادت شهرته في إیران عبر مطالعة الكتابات الأوروبیة خاصة بعد صدور أول ترجمة فارسیة للمقدمة.

ویضم الجزء الثاني من مصنف ابن خلدون التاریخي الكتابین الثاني والثالث من كتاب العبر والقسم التاریخي منه. وهذا الجزء عبارة عن مجموعة في التاریخ العام. وطبقاً لما أورده ابن خلدون نفسه، فإن الجزء الذي عرف فیما بعد بالمقدمة –أي الجزء الذي یتناول «علم العمران»- هو نفس كتاب التاریخ، والمفروض أن یكون كذلك وقد دعا في عملیة ترتیب أجزاء كتابه هذا الجزء بالكتاب الأول وجعله أساساً للكتابین الآخرین (مقدمة، 1/355-356)، أما في الوقت الراهن فیعتقد الكثیر أن هذا الجزء مستقل عن الأجزاء الأخری، وظهرت لهم حولها تقییمات متباینة، في حین نری –علی ضوء الدوافع التي أملت علیه الانصراف إلی هذا العمل– أن الهدف الرئیس له لم یكن كتابة التاریخ، ولهذا یجب أن نقول في حالة فصل المقدمة عن التاریخ إن المقدمة أو «علم العمران» إنما ألّفت من أجل فهم التاریخ وعرض تاریخ صحیح، ولذلك نجد أنه لم یغفل عن كتابة التاریخ بعد إنجاز الكتاب الأول، وانهمك في هذا العمل منذ أن خرج من قلعة ابن سلامة وحتی آخر حیاته. ورغم أن البعض اعتبر الجزء الخاص بتاریخ المغرب في العبر أهم بكثیر من أجزائه الأخری (الحصري، 98)، لكن هناك بعض الموأخذات علیه، مثل جهل المؤلف العجیب بالموحدین مثلاً وآرائهم، وعدم توفر تاریخ دقیق للأحداث، والتناقض في التفاصیل الخاصة بالنظام التاریخي للأحداث (EI2, III/829). وعلی أي حال فإن الترتیب الرائع للموضوعات وتفصیل الأخبار وذكر دقائق الأمور جعل هذا الأثر مرجعاً مهماً لتاریخ المغرب خلال القرنین 7 و8هـ (ن.ص).

وألقی البعض باللوم علی ابن خلدون لعدم وفائه بالوعود التي قطعها علی نفسه في المقدمة في الجزء التاریخي من العبر، والأخطاء التي ارتكبها رغم أنه أخذها علی المؤلفین الذین سبقوه (زرین‌كوب، 72؛ آیتي، 1/19)، ولكنهم سرعان أنصفوا بأن التزام معاییر النقد والتصحیح الوارد في المقدمة أمر یفوق طاقة مؤلف واحد (ن.ص)، كما أن الترتیب الذي انتهجه في تاریخه والذي هو أكثر منطقیة من الترتیب المبني علی التسلسل الزمني، وإحجامه عن تسجیل الخرافات والمبالغات یمكن أن یمیز أثره عن باقي كتب التاریخ (آیتي، 1/19-20).

ویعود عدم انعكاس ما ألزم به نفسه في المقدمة في الجزء التاریخي من العبر إلی أن هذا الأثر من وجهة نظر المؤلف لابد أن یدرس في وحدته الكاملة، وأن الانتقاد المذكور یعود إلی ثنائیة الرؤیة وبعبارة أخری فإن قارئ أثر ابن خلدون مدعوّ إلی بذل جهد فكري والمشاركة في فهم المواضیع التاریخیة اعتماداً علی الإمكانیات التي وضعت بین یدیه، ویمكن القول –من جهة ثانیة– إن عظمة المقدمة أدت إلی تقلیل شأن القسم التاریخي من أثر ابن خلدون، في حین لاتتضح أهمیة كتابته التاریخیة إلا عند السعي الجاد لمعرفة هذا التصنیف الكبیر ومقارنة مستوی عمل ابن خلدون مع أسلوب بعض المؤرخین القدامی. وأشار فیشل إلی أهمیة عمله التاریخي في الدراسة المقارنة لتاریخ الأدیان (ص 335-334). ولم یغفل ابن خلدون في العبر عن آرائه التي أوردها في المقدمة والتي یشیر إلیها أحیاناً في بعض المناسبات: فضمن حدیثه عن الأمویین (العبر، 3/2-3) یتناول «العصبیة» ورأي الإسلام فیها وآثارها الإیجابیة في الجهاد والتبلیغ الدیني، ویشیر في فتنة بغداد (ن.م، 3/477) إلی كثرة عمران هذه المدینة؛ وخلال كلامه عن تاریخ بیزنطة یتحدث عن السلطة التجاریة ویشیر مباشرة إلی المقدمة وما ذكره فیها من عدم إمكانیة سیطرة التجار ومن ینتسبون إلی السوق (ن.م، 4/245). ونجده في موضع آخر عندما لم تكن لدیه أخبار واضحة، یتمنی أن یمتد به العمر للتحقیق في تلك الأخبار وإعادة كتابتها. وحول مستقبل الدولة العثمانیة –التي كانت مثار قلق النصاری– بعد استیلاء تیمور، یعرب عن عدم اطلاعه تقریباً عن قلقه (ن.م، 5/563). وحینما یذكر أحداث الأندلس والمغرب لایشیر إلی أجداده ولا إلی نفسه وأقربائه عدا في حالات الضرورة وبشكل موجز (ن.م، 6/304، 377، 7/140)، ولایتحدث عن أسرته عند تناوله حادثة استیلاء السلطان أبي الحسن المریني علی تونس بالتفصیل، علی عكس ما فعله في التعریف (ن.م، 7/267-273).

والقسم الثالث من مصنف ابن خلدون التاریخي هو ترجمة أحواله التي دوّنها بنفسه واشتهرت اختصاراً بـ التعریف؛ تناول فیه جزءاً من الأحداث المهمة في حیاته إلی ماقبل وفاته بسنة، أي حتی شعبان 807هـ. وجاءت الأحداث التي مرّ بها بعد لقائه بتیمور وعودته إلی مصر (شعبان 80/نیسان 1401) مختصرة جداً وفي صفحة واحدة لم یتحدث فیها سوی عن تولیه وعزله المتكرر عن منصب القضاء (التعریف، 383-384). ولهذا فإن المعلومات الخاصة بحیاته في هذا الأثر قلیلة ومختصرة. وأكثر ما فیه ذو صلة بالأحداث الظاهریة، ولاتُلاحظ فیه الرغبة في التحدث عن الباطن (نصار، 20). وعُدّ التعریف جزءاً من الأثر التاریخي لابن خلدون، وذلك تمشیاً مع نظرته هو، حیث كان قد ألحقه بنسخة العبر التي قدمها إلی سلطان المغرب في 799هـ/1397م (ظ: المقري، 6/191؛ الحصري، 100).

ویتباین تفصیل الموضوعات في التعریف كثیراً، كما یُلاحظ فیها التكرار أحیاناً. وعندما یسهب ابن خلدون في بعض الموضوعات، نراه یعترف بابتعاده عن غایة الكتاب ویعلل ذلك باحتواء تلك الموضوعات علی حقائق اختصرت في كتاب العبر (التعریف، 130، 278). وهو في الحقیقة لم یذكر في القسم التاریخي من العبر شیئاً عن نفسه ولا عن أقاربه إلا نادراً. ویبدو أن مركز أسرته الاجتماعي في المغرب كان یستوجب ألا تكون أخبارها طي النسیان، ولأجل أن لاتُملأ صفحات التاریخ بأخباره الشخصیة، فقد دوّنها بشكل منفصل في آخر الكتب دون أن تفقد صلتها بالكتاب نفسه، وأطلق علیها اسم التعریف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً. وقال البعض –استناداً إلی أسلوب التدوین والمحتوی– إن ابن خلدون أراد من كلمة التعریف سیرته بإیجاز وترجمة حالة، أي لم یكن یهدف إلی تقدیم شرح كامل لتجاربه، بل الاكتفاء بتقریر قصیر (نصار، 21-22). و التعریف من حیث الأحداث التاریخیة والوثائق لیس مهماً للوقوف علی التاریخ السیاسي والفكري والأدبي لعصر ابن خلدون فحسب، بل إنه الوسیلة الآمن للعثور علی أفكاره ومتابعتها في المقدمة. وانبری نصار لهذا الأمر في جزء من تحقیقه (ص 18-34). وكان التعریف منذ البدایة جزءاً من تاریخ ابن خلدون، لم یفصله عن باقي الأجزاء سوی اسمه. وقد استُحسن في بعض نسخ هذا الأثر –الذي نقحه المؤلف فیما بعد– اسم «رحلة»، فسماه بعضهم «رحلة ابن خلدون» (ظ: حاجي خلیفة، 1/835؛ البغدادي، 1/529). وهذه الثنائیة في التسمیة حملت البعض –مثل بروكلمان– علی اعتبار الاسمین أثرین متباینین (GAL, S,II/342)، في حین أنهما عنوانان لكتاب واحد (الطنجي، مقدمة التعریف، «یز- یط»، وللاطلاع علی تفاصیل نسخ التعریف، ظ: «و- یز»).

ویحتل ابن خلدون الیوم مكانة مرموقة في الثقافة العالمیة، لأنه لم یكن فریداً في زمانه فحسب، بل لأن له كلاماً طویلاً مع الإنسان المفكر في زماننا هذا، ولا لأنه یمكننا تطبیق نظریاته علی مجتمعنا الحاضر، بل لأن تفاسیره نافعة ومثمرة في فهم الأسس التاریخیة لهذا المجتمع (بعلي، 138). لقد قفز ابن خلدون بالفكر التاریخي إلی مرحلة جدیدة (لاكوست، 211) وخرج بالتاریخ من شكله كوقائع تُسجَّل –كما كان یفعل القدماء– إلی شكل حدیث علمي جدیر بالتأمل (م.ن، 194). ویحظی أسلوبه التفسیري الاستدلالي التحقیقي بقیمة ثابتة، ویمكن الوقوف بشكل أوضح علی كثیر من التطورات التي طرأت علی تاریخ المجتمعات الإسلامیة السالفة، والقواعد التاریخیة لهیكلیتها الراهنة، في ظل نظریاته وأفكاره.

 

المصادر

آرائی نژاد، م.، «ابن خلدون وفلسفۀ تاریخ»، نَبَردِ زندگي، طهران، 1334ش، س 1، عد 4؛ آریانپور، أمیر حسین، «ابن خلدون پیشاهنگ جامعه شناسي»، سهند، الكراس الأول، ربيع 1349 ش؛ آيتي، عبد الحميد، مقدمة تاريخ ابن خلدون، طهران 1362 ش؛ ابن حجر العسقلاني، أحمد، رفع الإصر عن قضاة مصر، تقـ: حامد عبدالمجید، القاهرة، 1961م؛ ابن خلدون، عبد الرحمن، التعریف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، تقـ: محمد بن تاویت الطنجي، القاهرة، 1370هـ؛ م.ن، شفاء السائل لتهذیب المسائل، تقـ: محمد بن تاویت الطنجي، استانبول، 1957م؛ م.ن، العبر، بیروت، 1391هـ؛ م.ن، مقدمة، تقـ: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، 1384هـ/1965م؛ ابن عربشاه، أحمد، عجائب المقدور في أخبار تیمور، القاهرة، 1305هـ؛ ابن الفرات، محمد، تاریخ، تقـ: قسطنطین زریق، بیروت، 1936م؛ البغدادي، هدیة؛ حاجي خلیفة، كشف؛ الحصري، أبو خلدون ساطع، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، القاهرة، 1953م؛ رسائي، داود، حكومت إسلامي ونظر ابن خلدون، طهران، 1348ش؛ روزنثال، فرانز، «ابن خلدون»، تجـ: حسین معصومي همداني، زندگی نامۀ علمي دانشمندان إسلامي، طهران، 1365؛ م.ن، تاریخِ تاریخ نگاري در إسلام، تجـ: أسد الله آزاد، مشهد، 1365ش؛ زرین كوب، عبدالحسین، تاریخ در ترازو، طهران، 1354ش؛ السخاوي، محمد، الضوء اللامع، القاهرة، 1354هـ؛ الطنجي، محمد، مقدمة وحاشیة علی التعریف (ظ: همـ، ابن خلدون)؛ م.ن، مقدمة شفاء السائل (ظ: همـ، ابن خلدون)؛ عنان، محمد عبد الله، ابن خلدون، حیاته وتراثه الفكري، القاهرة، 1991م؛ فیشل، والتر، ابن خلدون وتیمورلنگ، تجـ: سعید نفیسي ونوشین دخت نفیسي، طهران؛ زوّار؛ كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفین، بیروت، 1957م؛ لاكوست، إیف، جهان بیني ابن خلدون، تجـ: مهدي مظفري، طهران،1354ش؛ مظلوم، حسن، «إیران وإیراني در مقدمۀ ابن خلدون»، تلاش، 1347ش، ع 11؛ المقري التلمساني، أحمد، نفح الطیب، تقـ: إحسان عباس، بیروت، 1388هـ؛ مهدي، محسن، فلسفة تاریخ ابن خلدون، تجـ: مجید مسعودي، طهران، 1352ش؛ مونتي، فنسان، «مقدمة بر مقدمة ابن خلدون»، ادب، كابل، 1347ش، س 16، عد 1-2؛ نصار، ناصیف، الفكر الواقعي عند ابن خلدون، بیروت، 1985م؛ وأیضاً:

Baali, F. and A. Wardi, Ibn Khaldun and Islamic Thought Styles, Boston, 1981; EI2; Fischel, Walter J., «Ibn Khaldun’s Contribution to Comparative Religions», Index Islamicaus, 1957, vol. LX; GAL, S; IA; Lévi- Provençal, E., «Note sur l’exemplaire du Kitâb al- cIbar...», JA, 1923, vol. CCIII; Rosenthal, F., «Ibn Khaldun in His Time», Ibn Khaldun and Islamic Ideology, Leiden, 1984; id, introd, and tr. The Muqaddimah, NewYork, 1967.

یوسف رحیم لو/ت.

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: