ابن خلدون، أبوزید
cgietitle
1442/11/7 ۰۹:۰۱:۱۵
https://cgie.org.ir/ar/article/233138
1446/10/9 ۰۹:۱۰:۴۵
نشرت
3
وینسب إلیه أثر آخر یدعی شفاء السائل لتهذیب المسائل، ولم نعثر علیه لا في كتاب ابن الخطیب ولا في ترجمة المؤلف. وقد نسبته الكتابات المتأخرة إلیه (الطنجي، مقدمة شفاء، «یه– یز»). ویشرح هذا الكتاب آراءه في التطورات التي طرأت علی التصوف في المغرب وأحكامه المتشددة علی هذا التیار الفكري والعملي. وقد كتب إثر مشاجرة عنیفة بین متصوفة الأندلس في نهایة النصف الثاني من القرن 8هـ/14م. وكان البحث آنذاك یدور حول: هل إن كتابات الصوفیة والعمل بأقوالهم كافٍ للوصول إلی المعرفة، أم إن المرید لكي یصل یحتاج إلی الشیخ والمراد في سیره وسلوكه؟ واستفتی أبو اسحاق إبراهیم الشاطبي (تـ 790هـ/ 1388م) علماء فاس في هذا الموضوع. وقد أجاب ابن خلدون علی ذلك في كتاب شفاء السائل دون أن یُطلَب منه (ن.م، «ح –ط»). وتحول الكتاب إلی مرجع للتحقیق في تصوف المغرب بفعل الدراسة التاریخیة التي قام بها ابن خلدون حول هذه القضیة (ن.م، «كه»). ویبدو في الكتاب واضحاً الاقتباس عن إحیاء علوم الدین للغزالي (ن.م، نلو– مطـ»). وینسجم حكم ابن خلدون في التصوف مع آراء العلماء القدامی ومعاصریه، لكنه یتناقض مع رأیه في هذا الشأن (ن.م، «في– ض»)، والذي جاء في المقدمة (1/532-535، 3/1197- 1212). وهذا ما دفع البعض إلی نفي انتسابه لابن خلدون (ظ: EI2, III/828؛ نصار، 14، الهامش)، غیر أن الطنجي یعتقد أن الفارق الزمني الطویل یقف خلف التعارض بین آرائه في هذا الأثر وآرائه في المقدمة، ویری أن شفاء السائل قد كتبه بالمغرب خلال الفترة 774- 776هـ/1372-1374م (ن.م، «ضا»). طبع الطنجي هذا الكتاب بإستانبول في 1957م (وهناك طبعة آخری في بیروت عام 1959م بتحقیق إ.ع. خلیفة، ظ: EI2، ن.ص)، وقد ألحق به فتوی ابن خلدون القصیرة والحاسمة حول التصوف، نقلاً عن تنبیه الغبي لبرهان الدین إبراهیم البقاعي (تـ 885هـ/1480م)، والرد المتین لعبد الغني النابلسي (تـ 1143هـ/173م). وقد قسّم ابن خلدون المتصوفة في هذه الفتوی إلی قسمین: أتباع طریقة السنة، وأتباع طریقة البدعة المتأخرة. واعتبر ابن عربي وابن سبعین وابن برّجان (ن.ع.ع) من المجموعة الثانیة وآثارهم جدیرة بالحرق. ویعد هذا الأثر من آثار ابن خلدون قلیلة الأهمیة، وفیه بعض آرائه العقائدیة وأحیاناً بعض التوضیحات لمواضیع وردت في المقدمة (EI2، نصار، ن.ص). وكذلك فتاواه حول التصوف غیر التقلیدي المتأخر (روزنثال، «ابن خلدون»، 22).
ب- الآثار التي صنفها بعد اعتزاله السیاسة وذكرها في ترجمته لأهمیتها، والتي اشتهر ابن خلدون بسببها. ونظراً للعلاقة الباطنیة والموضوعیة بین هذه الآثار وعدم انفكاك التخطیط الذي أظهرها إلی الوجود، فلابد من بحثها متصلة غیر منفصلة. وهذه الآثار هي: كتاب العبر والتعریف.
أطلق ابن خلدون علی أثره الأول اسم كتاب العبر ودیوان المبتدأ والخبر في أیام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، إذ أراده أن یكون مستوعباً لأخبار الخلیفة استیعاباً شاملاً (مقدمة، 1/356). وشرع في تألیف هذا الكتاب في انصراف كامل عن الأعمال السیاسیة منعزلاً في قلعة ابن سلامة (ابن خلدون، التعریف، 229). وأراد بتصنیفه لهذا الأثر أن یجد أجوبة لتساؤلات كثیرة أثارتها في ذهنه تجربته الیومیة ومشاهداته (لاكوست، 69) وأن یكون هذا الأثر أصلاً یقتدي به من یأتي من المؤرخین (ابن خلدون، مقدمة، 1/406).
وأورد ابن خلدون –إلی جانب مانقله من المصادر المكتوبة– روایات كثیرة عن أستاذه الآبلي ضمن كتابته لتاریخ المغرب في الماضي القریب من عهده (العبر، 7/91، 95، 96، 227، 228)، وهو مایمكن أن نعتبره إحدی المراحل الأولی في نشوء الفكر التاریخي أو الاهتمام بالتاریخ في ذهن ابن خلدون، علی ضوء الفاصل الزمني بین فترة تتلمذه علی الآبلي وعزلته في قلعة ابن سلامة (أكثر من 20 عاماً). ورغم أن التاریخ غیر الدیني لم یدرَّس في البلاد الإسلامیة في أیة مدرسة (روزنثال، تاریخ، 55)، وأن التاریخ بین المسلمین كان ذا طابع وقائعي وقصصي، كما هو الحال علیه في العالم الیوناني واللاتیني، غیر أن كثرة الكتابات التاریخیة عند المسلمین تؤید أن العالم الإسلامي في تلك العصور كان أكثر استعداداً من غیره بكثیر لازدهار الفكر التاریخي (لاكوست، 208). وكانت تُطرح قبل ابن خلدون في شمال غربي إفریقیة أفكار شبیهة بأفكاره ولكن بشكل ابتدائي وسطحي (روزنثال، ن.م، 139). وكان ماضي المغرب هو الذي جذب إلیه ذهن ابن خلدون في الوهلة الأولی لكي یجد في ظله الحال. فدراسة الماضي بحد ذاتها تخلق مشاكل لایمكن حلّها إلا عبرالتعمق في الظواهر والتطورات المعاصرة (حول ضرورة قیاس الحال بالماضي، ظ: ابن خلدون، مقدمة، 1/364).
والاهتمام بالتاریخ –كوسیلة لحل مشاكل الحاضر– یجعل منه أكثر معنی من التاریخ التقلیدي ویطرح إشكالات كتابة التاریخ التقلیدي والأخبار التاریخیة، الأمر الذي یستدعي البحث عن معیار وضابط لتمییز الصحیح من السقیم والغث من السمین. ولهذا یجب تحدید أصول التاریخ وأسسه قبل تناول علم التاریخ. وهذا الاستدلال العقلي قد أدی إلی ظهور ترتیب وتبویب «عجیب» غیر مسبوق في تاریخ ابن خلدون. ویشتمل هذا الكتاب علی مقدمة وثلاثة كتب: المقدمة في فضل علم التاریخ وتحقیق مذاهبه والإلماع بمغالي المؤرخین؛ والكتاب الأول في الاجتماع والمدنیة وذكر ما یعرض فیهما من العوارض الذاتیة؛ والكتاب الثاني في أخبار العرب وقبائلهم ودولهم، وبعض الأمم والدول الشهیرة التي عاصرتهم؛ والكتاب الثالث في أخبار البربر، وما كان لهم بدیار المغرب خاصة من الملوك والدول (مقدمة، 1/355-356).
وقد جُمعت المقدمة والكتاب الأول في مجلد واحد وهو المعروف بـ «مقدمة ابن خلدون»، وتستوعب تقریباً سُبع هذا الأثر التاریخي (ج 1 من طبعة تاریخ ابن خلدون ذات المجلدات السبعة). ویشكل الكتاب الثاني ما یقرب من أربعة أسباع الأثر (ج 2 إلی 5 و88 صفحة من ج 6). وأما الكتاب الثالث فیزید بقلیل عن السُبع (باقي ج 6 وج 7 حتی صفحة 379). والقسم الآخر من هذا الأثر التاریخي هو التعریف (ج 7، ص 379-462) الذي لم یُتَكهَّن به في البدایة ولم یرد في المشروع الأول، ثم أُلحق به فیما بعد كجزء ضروري.
فرغ ابن خلدون من مسودة المقدمة خلال خمسة أشهر تقریباً –أي في النصف الأول من 779هـ/1377م– في قلعة ابن سلامة، ثم شرع في تهذیبها وتنقیحها، وأضاف لها بعد ذلك تواریخ الأمم (4/1475). وكان قد بلغ آنذاك 47 عاماً ومضی علیه ثلاثة أعوام علی اعتزال السیاسة. ووجود كل هذه الأفكار في مقدمة كتبت خلال خمسة أشهر، قد دفع بعض المحققین إلی الاعتقاد بظهور ثورة ذهنیة مفاجئة أو حدث عبقري عند ابن خلدون، بل إن هناك من أخذ ینظر إلی صحة ما ورد فیها بعین الشك (الحصري، 119؛ نصار، 128، 215).
عاش ابن خلدون 29 عاماً بعد كتابة تاریخه لم یغفل خلالها عن تهذیبه وإكماله. ولهذا كانت له نسخ مختلفة من هذا الأثر خلال المراحل النسخة التي سبقتها. «فالنقد الداخلي1» للمقدمة، ودراسة نسخها المختلفة (النقد الخارجي)، سیظهر طبیعة تلك الإضافات وإعادات النظر (الحصري، 121-134؛ روزنثال، مقدمة مقدمة، I/104-107). وأهدی ابن خلدون أول نسخة منقحة من أثره –وهو في قلعة ابن سلامة– إلی أبي العباس الحفصي سلطان تونس (ابن خلدون، مقدمة، 1/360). وبعد 20 عاماً، أي في صفر 799/ تشرین الثاني 1396، وقف ابن خلدون من محل إقامته بمصر أثره الكامل المنقح ذا المجلدات السبعة علی خزانة الكتب بجامع القرویین في فاس مع إهدائه إلی أبي فارس عبد العزیز المریني (حكـ 796-800هـ/1384-1398م) (لیفي بروفنسال، 165-163؛ الحصري، 134-135).
ورغم مشروعه المنسجم، فلیست كل أجزاء تاریخ ابن خلدون ذات أهمیة واحدة، وقد اعترف المؤلف نفسه بهذا التباین، ویعتقد أن القسم الأول –أي المقدمة– لایخرج عن إطار مشروع عام لعلم جدید مبتكر (مقدمة، 1/414). وكان هدفه في البدایة من تألیف التاریخ بیان أحوال الأجیال والأعراق، والأمم والدول والممالك في المغرب، لأنه لم یكن لدیه اطلاع علی أحوال المشرق وأممه (ن.م، 1/406)، لكنه أقدم علی إكمال تاریخه بعد أن سافر إلی المشرق وحصل علی معلومات وافیة عن الملوك غیر العرب وممتلكات دول الترك (م.ن، 1/356).
وفي الحقیقة فإن المقدمة في نظر المحققین أهم أقسام تاریخ ابن خلدون، بل إن العامل الأصلي في اشتهاره هو البحوث والدراسات الكثیرة التي جرت علی المستوی العالمي منذ القرن المیلادي المنصرم وحتی یومنا هذا حولها. ولیس مبالغة لو قیل إن اسم ابن خلدون قد اقترن بالمقدمة التي لولاها لكان ابن خلدون و تاریخه مثل باقي مؤرخي العالم الإسلامي ومؤلفاتهم، بل إن تاریخه لایصل إلی مستوی مؤرخین كبار كالطبري والمسعودي وابن الأثیر، حتی إنه قد أخذ من آثارهم (ظ: ن.م، 1/352). وعنصر الابتكار في مباحث المقدمة والاعتماد في نفس الوقت علی التراث، قد جعل من ابن خلدون أحد العباقرة (نصار، 290-291). و المقدمة غیر العادیة ذات الطبیعة العبقریة، ربما هي حصیلة ذلك الجانب من سلوك وشخصیته الذي وصفه معاصروه بـ «المخالفة في كل شيء» (السخاوي، 4/146)، وقد قدم ابن خلدون موضوع علمه المبتكر –أي موضع المقدمة – العمران البشري والاجتماع الإنساني، وقضایاه علی أنها بیان الأحوال والعوارض ذات الصلة بماهیة العمران، ونظراً لموضوعه الخاص ومسائله الخاصة، فقد عدّه علماً مستقلاً ظهر بفعل عمق تفكیره وتحقیقه، فكان جدیداً وعجیباً ومثمراً (ابن خلدون، ن.م، 1/414).
وابن خلدون –في عرض علمه المبتدع– لم یكن یرید إطراء نفسه أو المبالغة، ولا الابتعاد عن التحفظ والحذر، فهو في الوقت الذي یعتبر كتابه تألیفاً فریداً لانظیر له، نراه یعترف بقصوره وعجزه عن الدخول إلی مثل هذا المیدان الواسع ویطالب بإصلاح أخطائه غض النظر عنها (ن.م، 1/357). وعندما یتحدث في مكان آخر عن فضله في اختراع وابتداع هذا العلم، نراه یُقسِم إنه لم یعرف أحداً (من العلماء) قد تحدث في هذه المقاصد سواء كان ذلك عن غفلة الماضین، أو أن صروف الدهر قد أتلفت كتاباتهم (ن.م، 1/414).
وقبل أن یتناول ابن خلدون المباحث الخاصة بـ «علم العمران» (موضوع الكتاب الأول)، نراه یطرح في دیباجة الكتاب ومقدمة المقدمة قضایا أساسیة علی صعید فن التاریخ. وهذه القضایا تُفصح عن الرؤیة التاریخیة لابن خلدون وارتباط «علم العمران» بالتاریخ، وتعرض مقاطع من مسار تبلور فكره التاریخي. وضمن إشارته إلی أن التاریخ یحظی من بین الفنون المتداولة بین كافة الأمم والأعراق باهتمام العامة والخاصة، یری أنه ذو ظاهر وباطن؛ وحسب رأیه فإن ظاهر التاریخ لایزید علی أخبار الأیام والدول السالفة ویستعمل عادة لتمثیل وتزیین الكلام، وباطنه نظر وتحقیق حول الحوادث ومبادئها وبحث دقیق للعثور علی عللها. وبما أنه یبحث في كیفیات الوقائع والعلل الحقیقیة لها، فهو «علم» أصیل في «الحكمة»، وجدیر به أن یُعدّ في علومها (ن.م، 1/351) وبعد أن یثیر ابن خلدون الاهتمام بالصفة «العلمیة» للتاریخ، یستعرض العقبات التي تحول دون اعتباره «علماً»: فكثیر من المؤرخین یخلطون بدون تحقیق وتنقیح للأخبار –أي المادة الأولیة لكتابة التاریخ– الغلط والوهم بالأخبار الصحیحة والتاریخ. ولرفع هذه العقبات لابد من نقد الأخبار وانتخاب الصحیح منها (ن.ص). ویعتقد أن الناقد البصیر قسطاس نفسه في تزییف هؤلاء المؤرخین فیما ینقلون، أو اعتبارهم (ن.م، 1/352).
والعبارة الأولی للكتاب الأول، أي عند التحدث عن «طبیعة العمران»، تبین حقیقة التاریخ، أي الإخبار عن المجتمع الإنساني الذي عمران العالم وما یعرض لطبیعة ذلك العمران من الأحوال (ن.م، 1/408). وهذا الاجتماع –أي العمران والتمدن– ذو طبائع خاصة قابلة للتمییز ویجب علی المؤرخ أن یعرض الأخبار علی هذه الطبائع (ن.م، 1/352). لهذا فإن الموضع الأساسي للمقدمة، ضمن عرضه لكیفیات الاجتماع والتمدن وعوارضهما الذاتیة (ن.م، 1/355)، یهتم أیضاً بتقدیم وسیلة للنقد وتصحیح الأخبار. ولكن هذا لیس كل موضوع المقدمة. فنشاهد فیها موضوعات متنوعة ترتبط بالحیاة الاجتماعیة للإنسان (العمران والتمدن) وهي من الكثرة، بحیث اعتبرها بعض القدماء المتأخرین موسوعة للمعارف (السخاوي، 4/149؛ الحصري، 114؛ لاكوست، 187). والسبب في تنوع هذه المعلومات في المقدمة لیس إسهاب المؤلف، بل اعتقاده بالمبدأ القائل بالحاجة إلی «مصادر عدیدة وعلوم مختلفة» من أجل الانتفاع الصحیح من تجارب الماضین التي وصلتنا علی شكل أخبار وروایات، علی أن یكون ذلك مدعوماً بـ «حسن النظر والإصرار والتثبیت الخاص» لكي نكون بمنأی عن الانزلاق في هاویة الأخطاء.
ویورد ابن خلدون في نهایة مقدمة الكتاب الأول عناوین فصول الكتاب بترتیب ینبئ عن الملامح الخاصة بفكره، الملامح التي عبّر عنها بالعقلانیة والواقعیة (الحصري، 39؛ لاكوست، 213؛ نصار، مخـ)، لكن یجب ألا یقاس ابن خلدون في هذه العقلانیة والواقعیة بالفلاسفة العقلیین من المسلمین الذین سبقوه أو بالعقلانیین المتأخرین من الغربیین، ذلك لأنه كان متأثراً بتیارات مختلفة أخری ناجمة عن بیئة الأسرة والتربیة العلمیة والبیئة الثقافیة في عصره: الالتزام بالشریعة، ومعارضة الفلسفة، والنزعة إلی نوع من التصوف. قد أدی اجتماع هذه العوامل في إطار نظام فكري واحد إلی التأثیر علی كافة جوانب مؤلَّفه (نصار، 60). وترتیب فصول الكتاب الأول كالآتي: الأول، العمران البشري علی الجملة؛ الثاني، في العمران البدوي؛ الثالث، في الدول… وذكر المراتب السلطانیة؛ الرابع، في العمران الحضري؛ الخامس، في الصنائع والمعاش؛ السادس، في العلوم (ابن خلدون، مقدمة، 1/419).
ویحظی تفسیر هذا الترتیب بأهمیة كبیرة لأنه یسلّط الأضواء علی الفكر الاجتماعي والتاریخي عند ابن خلدون. وقد قدم العمران البدوي لأنه سابق علی جمیعها، وكذا تقدیم الملك علی البلدان والأمصار (مرحلة الانتقال من البادیة إلی المدینة). وأما تقدیم المعاش فلأن المعاش ضروري طبیعي، وتعلم العلم كمالي أو حاجي، والطبیعي أقدم من الكمالي. جعل الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه (ن.ص). وقسّم كل فصل من هذه الفصول الستة إلی فصول عدیدة تختلف في حجمها.
وفي تعلیله العقلي للظواهر یقترب أحیاناً مما یُسمی الیوم بـ «المادیة التاریخیة». إذ أنه یعتقد أن اختلاف الأجیال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، أي الاقتصاد (ن.م، 2/577) ونظراً لاستنتاجاته الأخری المشابهة، فقد عده البعض رائداً للمادیة التاریخیة (لاكوست، 184)، دون أن ینكر عقائده الدینیة القویة (م.ن، 220). وأنهی ابن خلدون كل فصل من فصول المقدمة بآیة من القرآن الكریم. لهذا قالوا بأنه كان یمتلك العقل والعرفان معاً، وقد استخدمها معاً، لكن في حقول متباینة ومتمیزة عن بعضها (م.ن، 222). وعلی صعید علم الإلهیات یؤكد بشكل صریح أن «مدارك صاحب الشریعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلیة…، فإذا هدانا الشارع إلی مُدرَك فینبغي أن نقدمه علی مداركنا ونثق به دونها ولاننظر في تصحیحه بمدارك العقل ولو عارضه» (ابن خلدون، ن.م، 3/1246-1247). وحول مكاشفات أهل المجاهدة والخلوة یری أن «لیس البرهان والدلیل بنافع في هذا الطریق رداً وقبولاً، إذ هي من قبیل الوجدانیات» (ن.م، 3/1202). في حین یری أن الإنسان تمیز بالفكر الذي یرادف الحقیقة الإنسانیة (ن.م، 3/1107-1109). وهو بهذا یكشف عن الحدود الحقیقیة للعقل ویفتح الباب لقبول الأشیاء التي یعجز العقل عن فهمها (مهدي، 102). ویعتقد البعض أن هذا الأمر نوع من التناقض في النظام الفكري عند ابن خلدون، لكنه تناقض جدلي مشفوع بالبحث والاستدراك العقلي، وأن الإنجاز المهم الذي حققه ابن خلدون-أي إضفاء العلمیة علی التاریخ– هو في الأساس ثمرة من ثمرات هذا التناقض. لقد حارب بدافع من الاعتقاد الدیني الفلسفة، وأنقذ العلم من قیود الاستدلالات المجردة والانتزاعیة، ووضع الأمور العینیة والمادیة في باحة العقل (لاكوست، 229-230). والتمییز بین حدود العقل والشرع في فكر ابن خلدون لم یؤد به إلی إهمال جانب الواقعیة في قضیة الحیاة الاجتماعیة ومقارنتها بالشریعة (ابن خلدون، ن.م، 1/424-425). وعزا بعض المحققین بعض آرائه مثل «تقدم الصورة علی المادة» إلی خشیته من حملات المتشرعین (لاكوست، 185)، وإذا كان الأمر كذلك فهو أقوی دلیل علی تأكید ابن خلدون علی قوة العامل الثقافي في الظاهرة الاجتماعیة (نصار، 234).
وهذه الواقعیة في فكر ابن خلدون قد تصل أحیاناً إلی نقطة یرجَح في تحكیمه بین الحق والواقع كفّة الواقع، وتُصبح مقولة «الحق لمن غلب» عنده ذات مصداقیة (بعلي، 132). ورغم أنه نسب مثل هذه الذهنیة إلی العرب البدو في عصر ظهور الإسلام، إلا أنها بدت ظاهرةً فیه عند تبریر النزاع بین علي(ع) ومعاویة (ابن خلدون، ن.م، 2/713-714). ویبدو أن سیرته خلال فترة اشتغاله بالسیاسة تتحدث أیضاً عن مثل هذا التصرف.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode