الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / أفلوطین /

فهرس الموضوعات

أفلوطین


تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/4 ۰۸:۳۳:۴۲ تاریخ تألیف المقالة

أَفْلوطين، أو فلوطين، پلوتينوس (205-270م)، الفيلسوف المؤسس للمدرسة الأفلاطونية المحدثة. وهو معروف لدى الفلاسفة الإسلاميين بالشيخ اليوناني، لكن اسمه ورد في الفهرست لابن النديم (ص 315) ومن بعده في إحدى كتابات محمد بن زكريا الرازي بشكل فلوطينس (ص 121). كما أن القفطي يذكر 
فلوطين ويقول إنه ــ فضلاً عن شرحه بعض آثار أرسطو ــ كانت مؤلَّفاته أيضاً قد ترجمت من الرومية (اليونانية) إلى السريانية (وليس العربية) (ص 258). وإن أهمية أفلوطين الفائقة للفكر الفلسفي الإسلامي هي بشكل لو لم يكن معه التأثير غير المباشر للنظرة العالمية لهذا الفيلسوف وأتباعه موجوداً، لما كان قد ظهر الفكر الفلسفي الإسلامي بشكليه السابق والحالي، وبشكل خاص بعد فلسفة ابن رشد. 

حياته ومؤلفاته

 حياته

تتوفر معلومات دقيقة إلى حد ما عن حياة أفلوطين التي أهم مصادرها «ترجمة حياته» التي كان قد كتبها تلميذه البارز وصديقه الوفي، فرفوريوس6 (232، أو 233-301، أو 305م) بعد وفاته بثلاثين عاماً، أي حوالي سنة 301م تحت عنوان «في حياة أفلوطين وتصنيف مؤلفاته» في 26 فصلاً والتي تسمى في المراجع الأوروبية الحديثة بعنوانها اللاتيني المختصر «حياة أفلوطين»، ويُحال إليها. 
واستناداً إلى رواية فرفوريوس، فإن أفلوطين لم يكن يرغب في الحديث عن أصله، أو أبويه، أو موطنه؛ لكن استناداً إلى محاسباته هو، فإنه كان قد ولد في السنة 13 لحكم الإمبراطور الرومانـي سبتيمس سـاويـروس (حك‍ 193-211م)، أي فـي 205م (الفصـل 2). ويرى يوناپيوس (ح 345 ـ بعد 413م) مـؤلف «تراجم حياة السوفسطائيين» أن مسقط رأس أفلوطين هو ليكوپوليس في مصر العليا (أسيوط في مصر الحالية). وكان أفلوطين قد اتجه إلى الفلسفة وهو في الثامنة والعشرين من عمره، أي في 232م وكان يتلقى علومه في الإسكندرية (م.ن، الفصل 3). ولاتتوفر أية معلومات عن أساتذته، سوى أن أحد أصدقائه فيما يبدو كان قد عرّفه في 232-233م إلى الفيلسوف الشهير في عصره أمونيوس سكاس (تـ ح 242م). ويقال إن أفلوطين بعد حضوره دروسه وسماعه كلامه كان قد قال لصديقه: هذا من كنت أبحث عنه (ن.ص). 
وقد أمضى سنوات يتلقى العلوم الفلسفية لدى أمونيوس وتبحر فيها، ونشأت لديه رغبة عارمة في التعرف إلى العلوم الفلسفية الإيرانية وكذلك ما كان لدى الهنود أيضاً. وفي بداية سنة 243م نشبت حرب بين الإمبراطور الروماني، أنطونيوس غـورديانـوس (حك‍ 234-244م) وسـابـور الأول (سلـ‍ 241-272م). وقد تطوع أفلوطين الذي كان آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمره للمشاركة في تلك الحرب ليتمكن من السفر إلى بلاد الشرق والتعرف إلى فلسفتي الفرس والهنود (ن.ص). لكنه وبعد مقتل غورديانوس في بلاد ما بين النهرين في 244م تمكن بشق الأنفس من الهرب من إيران والذهاب إلى أنطاكية. وربما يكون السبب في عدم عودة أفلوطين إلى الإسكندرية عائداً إلى وفاة أستاذه أمونيوس خلال غيبته. وكان آنذاك في الأربعين من عمره. وعقب تسنم فيليبوس العربي، أي قاتل غورديانوس عرش الإمبراطورية (حك‍ 244-249م)، ذهب أفلوطين في نفس السنة (244م) إلى روما (ن.ص)، وهناك افتتح مدرسة فلسفية وتحلق حوله التلاميذ، وظل يدرّس لمدة 10 سنوات كاملة ويلقي المحاضرات، لكنه لم يكن يكتب شيئاً، ذلك أنه كان قد اتفق مع اثنين من الفلاسفة الآخرين بأن لايفصحوا في دروسهم ومحاضراتهم إطلاقاً عما كانوا قد تلقوه من تعاليم أمونيوس وآرائه. وظل أفلوطين وفياً لهذا العهد، لكن الاثنين الآخرين أخلفوا بالعهد؛ ولم يكتب أفلوطين خلال ذلك سوى «رسالة حول العفاريت والجن» وكذلك مؤلَّف بعنوان «الملك وحده هو المبدع»، وكان يضع دروسه على أساس محاضرات أمونيوس الذي لم يكن هو الآخر قد كتب شيئاً في الفلسفة على الإطلاق. وكان يشجع تلامذته على طرح الأسئلة، ولذا كانت مطارحات التي لاطائل من ورائها تتواصل في مجالس درسه. 
وعقب 30 سنة من إقامته في روما التحق به تلميذه الفيلسوف، أميليوس ومكث معه 24 سنة. وأميليوس الذي كان من أكثر مصاحبي أفلوطين نشاطاً كان يكتب مذكرات عن دروسه ومحاضراته وجمع حوالي 100 مقالة منها وأودعها لدى ابنه بالتبني، يوستليانوس هسوخيوس (ن.ص). وخلال ذلك شرع أفلوطين بالكتابة، وإلى أن جاء فرفوريوس إلى روما في 263م كان قد كتب 21 رسالة (م.ن، الفصل 4)؛ كما ألف 24 رسالة خلال السنوات الست التي كان فيها فرفوريوس تلميذاً له، أي بين السنوات 263و268م. 
وأخيراً تخلى فرفوريوس عن أفلوطين في 268م وغادر روما إلى صقلية (م.ن، الفصل 5). واستناداً إلى قوله، فإنه كان قد انضم إلى أفلوطين عندما كان في الثلاثين من عمره (الفصل 4). كما أن أفلوطين كان يعيش في روما لمدة 26 سنة كاملة (من 244م) (م.ن، الفصل 9). وكثيراً ما كان يمرض، وكان يعاني غالباً أمراض المعدة (م.ن، الفصل 2)، لكنه كان يرفض تناول الدواء ولايراه مناسباً لرجل طاعن في السن، ويأبى تناول لحم الصيد، كما لم يكن يأكل لحوم الحيوانات الداجنة. وبشكل عام كان يعيش بأسلوب الزهاد. وبعد مدة أصيب بذباح شديد، بحيث فقد صوته تقريباً، فلم يكن يسمع، إلا بصعوبة، كما شح بصره وأصيبت يداه ورجلاه بقروح. ولما كان أصدقاؤه يتجنبون الالتقاء به بسبب مرضه، فقد عزم على مغادرة روما، فغادرها نحو كمبانيا قرب خليج ناپولي إلى أملاك أحد أصدقائه المتوفين، المدعو زيثوس. وعندما عاد يوستوخيوس إليه من سفرة قصيرة قال له أفلوطين: «لا أزال انتظرك!»، ثم أضاف هذه الجملة الموحية: «أحاول أن أردّ ما هو إلٰهي فينا إلى ما هو إلٰهي في الوجود». واستناداً إلى رواية يوستوخيوس، فإن أفلوطين كان في السادسة والستين عند وفاته. وكان فرفوريوس آنذاك في منطقة تدعى ليلوبايوم (م.ن، الفصل 2). 

مؤلَّفاته

يقول فرفوريوس إنه خلال السنوات الست التي كان يمضيها عند أفلوطين كان يحثه دوماً ويشجعه على مواصلة الكتابة. واستناداً إلى هذه الرواية، فإن أفلوطين كان قد بدأ بالتأليف لأول مرة وهو في التاسعة والأربعين، أي حوالي سنة 253، أو 254م، وكتب ما مجموعه 54 رسالة. 
بادر فرفوريوس وهو في الثامنة والستين بجمع كتابات أستاذه وتنقيحها (ظ: الفصل 23)، وقسم تلك الرسائل الأربع والخمسين إلى 6 مجاميع تشمل كل مجموعة 9 رسائل، في كل رسالة عدة فصول، وسمى تلك المجموعة «التاسوعات»، واشتهرت بعد ذلك بهذا الاسم. وهو في عمله هذا لايلتزم بالتسلسل الزمني للكتابات، أي تقدم وتأخر زمن تأليفها، لكن ترتيب الرسائل من حيث الموضوع مشهود تماماً. فالموضوعات تبدأ من الأشياء الأرضية المحسوسة وتصل إلى الأمور السماوية التي ماوراء المحسوس. وبعبارة أخرى تنتقل من المشخَّص إلى المجرد على النحو التالي: أفعال الخير الإنسانية (التاسوعة I)، البحوث المتنوعة حول الموضوعات الخاصة بعالم الطبيعة (التاسوعتان II-III)، في الروح (التاسوعة IV)، موضوع المعرفة والواقعيات العقلية، أو المعقولات (التاسوعة V)، وأخيراً في الواحد (الأحد) المصدر والأصل والدافع لجميع الأشياء (التاسوعة VI). وقد أبدى فرفوريوس غاية الدقة في تنظيم رسائل أفلوطين وتدوينها. وفضلاً عما كان قد كتبه هو في روما أورد الكتابات التالية أيضاً. ولم يكن أفلوطين نفسه قد منح أياً من هذه الرسائل عناوين خاصة، بل إن فرفوريوس أعطاها عناوين لدى تدوينها. 
وكان لأفلوطين أسلوب خاص في التدريس وكذلك في التأليف، وكانت كتاباته في الواقع تجلياً منظماً نوعاً ما للمسائل والموضوعات التي تطرح في مدرسته بحضور التلاميذ والمستمعين على شكل أسئلة، ثم كان هو يبين آراءه ونظرياته الخاصة بشأنها ضمن تحليلها وتوضيحها مما كان يثير إعجاب وحماس تلامذته. وبعدها كان ينظمها وينسقها خلال الكتابة في غاية البلاغة والجمال. إلا أن فصاحة أفلوطين في القول والكتابة لم تكن مقصودة، أو مصطنعة وعن سابق تصميم، بل نتيجة لعمق التفكير والتبحر في المسائل موضع البحث. وخلال ذلك كان أحياناً يرتكب أخطاء في التلفظ، أو الإملاء الصحيح للمفردات، مما اضطر فرفوريوس لدى تنظيمه وتنقيحه مؤلفاته إلى إصلاح بعض تلك الأخطاء (م.ن، الفصول 4-6). لذا، قال البعض إن 
أفلوطين لايجيد الكتابة باليونانية. صحيح أنه كان له أسلوب تأليف خاص وفريد نوعاً ما، لكنه لم يتعمد على الإطلاق الكتابة بشكل غامض، بل إن لسانه كان يتلألأ أحياناً فصاحة وسلاسة، وغالباً ما يسعى إلى أن يقول بإشارة ما لايقال، ذلك أنه كان على يقين بوجود نقاط غامضة لاتظهر في الكلام ولاينبغي أن تجري على اللسان، بل إن الإشارة، أو الاستعارة، أو المجاز أكثر مناسبة لفهمها. ومن جهة أخرى، يجب التذكير أن هدف أفلوطين من كتاباته لم يكن نشرها لعامة القراء، بل لعدد من تلامذته وأصدقائه، وكما يقول فرفوريوس، فإن الحصول على مخطوطات من تلك الكتابات ما كان بالأمر اليسير(الفصل 4). ويمكن العثور اليوم على بعض النقول مما كتبه أفلوطين حول «مسائل الروح» التي كان صديقه وطبيبه يوستوخيوس قد جمعها وفُقدت، في كتاب أوسيبيوس الشهير (تـ ح 340م) الذي يحمل عنوان «مدخل إلى الإنجيل» (الكتاب XV، الفصلان 10,22)، والذي يختلف عما يلاحظ في النص الحالي «للتاسوعات» والذي يزيد من الوثوق بصحة أسلوب فرفوريوس وأصالة عمله. 
وفيما يلي نورد عناوين الرسائل التي جمعت في «التاسوعات» (تظهر الأرقام الموجودة داخل الأقواس، التقدم والتأخر الزمانيين لتأليف الرسائل): 
التاسوعة I: 1. ما الحي وما الإنسان ؟ (53)؛ 2. في الفضائل (19)؛ 3. في الديالكتيك (20)؛ 4. في السعادة (46)؛ 5. هل السعادة في امتداد الزمان (36)؛ 6. في الجمال (1)؛ 7. في الخير الأول وأعمال الخير الأخرى (54)؛ 8. من أين تنبع الشرور، أو المساوئ؛ (51)؛ 9. في إهمال الجسد بشكل معقول (16). 
التاسوعة II: 1. في العالم (40)؛ 2. في الحركة الدورية (14)؛ 3. فيما إذا كان للنجوم فعل (52)؛ 4. في كيفيتي المادة (12)؛ 5. في معنى القول بالقوة والفعل (25)؛ 6. في الكيفية والمثال (أو النوع) (17)؛ 7. في الامتزاج الكلي (37)؛ 8. لماذا تظهر الأشياء صغيرة إذا ما بعدت؟ (35)؛ 9. ردّ على من يقول: العالم وصانعه كلاهما شر (الرد على الغنوصية) (33). 
التاسوعة III: 1. في المصير (3)؛ 2. في العناية (التدبير الإلٰهي) (القسم 1) (47)؛ 3. في العناية (التدبير الإلٰهي) (القسم 2) (48)؛ 4. في الجني الذي قدّر لنا قرين (15)؛ 5. في الحب (50)؛ 6. في أن اللاجسمانيات مبرأة من الانفعال (26)؛ 7. في الخلود والزمان (45)؛ 8. في الطبيعة والفكر والواحد (30)؛ 9. في أبحاث متفرقة (13). 
التاسوعة IV: 1. في ماهية النفس (القسم 1) (21)؛ 2. في ماهية النفس (القسم 2) (4)؛ 3. صعوبات تتعلق بالنفس (القسم 1) (27)؛ 
4. صعوبات تتعلق بالنفس (القسم 2) (28)؛ 5. صعوبات تتعلق بالنفس، أو في الأبصار (القسم 3) (29)؛ 6. في الإحساس والذاكرة (41)؛ 7. في خلود النفس (2)؛ 8. في هبوط النفس إلى الأجسام (6)؛ 9. هل النفوس كلها نفس واحدة (8). 
التاسوعة V: 1. في الأصول الثلاثة القديمة (10)؛ 2. في التكوين ونظام المتأخرات عن الأول [موجود] (11)؛ 3. في الأصول العارفة و في ماهو فوقها (49)؛ 4. كيف يكون من الأول ماكان بعد الأول وفي الواحد (7)؛ 5. في أن الروحانيات ليست خارجة عن الروح وكذلك في الخير (32)؛ 6. في أن ماوراء الوجود لايفكر، وما هو المفكر الأول وما هو الثاني (24)؛ 7. في هـل لكل أمر جزئي مثـال (18)؛ 8. في الحسن الروحانـي (31)؛ 9. في الروح وفي المثل وفي الأيس (5). 
التاسوعة VI: 1. في أجناس الأيس (القسم 1) (42)؛ 2. في أجناس الأيس (القسم 2) (43)؛ 3. في أجناس الأيس (القسم 3) (44)؛ 4. في أن الأيس هو كله في كل ناحية و هو واحد في ذاته (القسم 1) (22)؛ 5. في أن الأيس هو كله في كل ناحية وهو واحد في ذاته (القسم 2) (23)؛ 6. في الأعداد (34)؛ 7. كيف نشأت كثرة المثل؟ وفي الخير (38)؛ 8. في العمل المختار وفي إرادة الواحد (39)؛ 9. في الخير، أو في الواحد (9). 
وقد صدرت آخر وأفضل طبعة نقدية لمتن «التاسوعات» في «آثار أفلوطين» بتحقيق هنري وشويتسر (باريس / بروكسل / ليدن، 1951-1973م) في 3 مجلدات، ويضم المجلد الثالث ــ فضلاً عن التاسوعة VI ــ ملاحق للتاسوعات I-V، ببليوغرافيا وفهرستاً ومسرداً. كما صدر «المعجم الأفلوطيني» بلندن في 1980م. 
وأفضـل التراجم هـي: 1. التـرجمـة الألمانيـة التـي أنجـزهـا ر. هاردر وآخرون مع المتن اليوناني وملاحظات وإيضاحات وفهرس (هامبورغ، 1956-1971م)؛ 2. أفضل ترجمة إنجليزية هي التي أنجزها آرمسترونغ مع المتن اليوناني (لندن، 1966- 1988م، 7ج)؛ 3. ترجمة فرنسية أنجزها بريه، مع المتن اليوناني (باريس، 1924- 1928م، 7 ج). 


فلسفة أفلوطين 

كانت الإمبراطورية الرومانية في القرن 3م تمر بمراحل متأزمة وكانت تعاني الصراعات والنزاعات على جميع الصعد تقريباً. وكانت الاضطرابات وحالات عدم الاستقرار السياسي المتتالية تهز هذه الإمبراطورية المقتدرة أحياناً إلى حد الانهيار. فقد كان هجوم الشعوب شبه الهمجية من شمالي أوروبا من جهة، والصراعات والحروب الاستنزافية التي لاطائل من ورائها في الشرق مع إيران من جهة أخرى، تؤدي إلى ظهور انعكاسات ونتائج اجتماعية 
مدمرة، و تسبب بشكل خاص ظهور أزمات داخلية فردية وإجتماعية مختلفة. وكانت أفكار سكان البقاع الخاضعة لهيمنة الإمبراطورية الرومانية تعدّ أراضي جاهزة وخصبة للمعتقدات والاتجاهات والعادات والتقاليد المختلفة الدينية وكذلك الفلسفية. وكانت المسيحية ونظرتها العالمية التي لم يكن قد تم الاعتراف بها بعد، في حالة صراع مع المعتقدات الدينية المعارضة. وكانت قد ظهرت من داخل المسيحية، مجاميع بأفكار ومعتقدات تتناقض مع المبادئ المعترف بها في تلك الديانة، ويشكل الغنوصيون أشهر تلك المجاميع. وكانت الأفكار والمعتقدات الدينية الانتقائية قد شقت طريقها من المشرق حتى أعماق المجتمعات الخاضعة للإمبراطورية الرومانية. وفي مجال النظرة العالمية والأفكار الفلسفية أيضاً كانت هناك نزعات متباينة ومتعارضة؛ وكان للأفلاطونيين والشكاكين والأبيقوريين وبشكل خاص الرواقيين دور فاعل جداً في بلورة أفكار البشر وكذلك مشاعرهم. 
وفي فترة كهذه، ولد أفلوطين وترعرع وتعلم وشرع بالتفكير. وخلال ذلك تركت عدة نزعات فلسفية بشكل خاص أثراً كبيراً في بلورة فكره الفلسفي: فلسفة أفلاطون والنزعات الحديثة الظهور التي انبثقت عنها في القرون الماضية؛ النظرة العالمية لأرسطو وبعض أهم مبادئه الفلسفية؛ ونظريات للرواقيين. لكن ما ألقى بظلاله على فكر أفلوطين أكثر من غيره وما أثقل كاهله على الدوام، هو النظرة العالمية لأفلاطون ومن بعدها فلسفة أرسطو. فأفلوطين يذكر أفلاطون 50 مرة، ويذكر صراحة أرسطو 4 مرات فقط، ويشير في كتاباته إلى أفلاطون حوالي 900 مرة وإلى أرسطو حوالي 500 مرة، ويستند أكثر مايستند من بين محاورات أفلاطون إلى فيدروس، «الجمهورية»، فيليبوس، «المأدبة»، ثيايتيتوس، تيمايوس، وكذلك إلى عدة محاورات أخرى. وكما أسلفنا وبطبيعة الحال، فإن عناصر الفلسفة الأرسطية لها مكانها في كتابات أفلوطين. 
والآن، هـل يمكن لأفلوطين أن يُعَـدّ ــ كما ادعى الـبعض ـ فيلسوفاً ذا آراء مزيجة وانتقائية؟ لا، أبداً. يمكن القول عنه إنه قبل كل شيء فيلسوف عميق التفكير أفلاطوني النزعة، وكذلك متفكر فلسفي صوفي المشرب. وربما أمكن تسمية أفلوطين، آخر فيلسوف يوناني كبير، برغم أنه يُلاحظ في عدة موضوعات مهمة جداً وأساسية من فكره، عدم انسجام على الأقل إن لم نقل تناقض. ومن جهة أخرى وكما سنرى، فإنه يمكن العثور في عمق الأفكار الفلسفية لأفلوطين عناصر واضحة جداً للعواطف والأفكار العرفانية وكأنها تنبع من أعماق تجارب حياته الخاصة. فأفلوطين يتحدث أحياناً وكأنه سئم من وجوده الأرضي. وبحسب كلام فرفوريوس، فإنه كان يستحيي من كونه في جسد؛ ولايطيق صبراً على رسام يصوره، أو نحات يمثله بذريعة: أليس بكافٍ أن نحمل هذه الصورة التي خلعتها علينا الطبيعة حتى نزيد على ذلك رضانا بأن نخلف عنها صورة أخرى لها تبقى بعدها، كأنها من الآثار التي تستحق المشاهدة؟ (الفصل 1). وأخيراً، رسم رسام ماهر من غير علم أفلوطين. صورة شبيهة به استناداً إلى الصورة التي انطبعت في ذاكرته عن وجهه (ن.ص). 
والهروب من الكون هو أحد السمات البارزة للفكر الفلسفي لأفلوطين، لكن من جهة أخرى ــ وكما سنرى ــ فإنه يثني على هذا الكون. فأفلوطين رجل فكر لاعمل. وهو يتبرم بشكل خاص من أي شكل من أشكال الأنشطة الاجتماعية والسياسية ويمنع الآخرين عنها أيضاً (م.ن، الفصل 7). وهو يقول في أحد المواضع: إن وضع السعادة في العمل هو وضعها في شيء خارج الفضيلة والروح؛ فنشاط الروح هو في التفكير، وإن عملاً من هذا النوع هو داخلها، وهذه هي حالة السعادة (التاسوعة I، الرسالة 5، الفصل 10). إلا أن الضرورة من الخارج تأتي لمن هم منشغلون في نشاط عملي، ذلك أن عملهم ليس هباء؛ لكن كيف هي الحرية لأمثال هؤلاء الذين هم عبيد لطبائعهم؟ (التاسوعة VI، الرسالة 8، الفصل 4). والعقل العملي يتطلع نحو الخارج ولايبقي في ذاته؛ والعقل يمكنه أن يكون شكلاً من أشكال معرفة الأشياء الخارجية، لكن لو كان الكل عملياً، لم يرَ ضرورة في أن يعرف نفسه (التاسوعة V، الرسالة 3، الفصل 6، السطور 35-40). والرجل المرتبط بهذه الدنيا يمكن أن يكون جميلاً وعالي الهمة ومقتدراً وحاكماً للناس (ذلك أنه ذاتياً من هذه المنطقة)، ولاينبغي لنا أن نحسده على أمور كهذه هو مشغول بها. والرجل العالم يمكن أن لايكون لديه أي من هذه على الإطلاق؛ وإن كانت لديه، لكنه يتحلى بعزيمة ذاته الحقة، فإنه يقلل منها ويطفئها تدريجياً بتجاهلها والتقليل من مزاياه الجسمانية ويضع السلطة والمنصب جانباً (التاسوعة I، الرسالة 4، الفصل 14). 
وأخيراً، يصرح أفلوطين في موضع آخر: عندما تضعف قوة التفكير لدى البشر يتخذون من العمل ظلاً لهذا الفكر والبحث النظري، ذلك أن الفكر النظري ليس كافياً لهم، لأن أرواحهم ضعيفة ولايستطيعون إدراك الشهود بشكل كافٍ. وعلى هذا، فإنهم ليسوا مفعمين به، وكذلك وشوقاً منهم لرؤيته يُجرّون إلى العمل ليروا ما لايستطيعون رؤيته بالعقل (التاسوعة III ، الرسالة 8 ، الفصل 4). 
كانت أقوال وأفعال أفلوطين تؤثر في الكثيرين بشدة وتغير أسلوب حياتهم. واستناداً إلى رواية فرفوريوس، فإن عدداً ملفتاً للنظر من أعضاء مجلس الشيوخ الرومان كانوا يحضرون دروس أفلوطين ويجدّون في طلب الفلسفة، بل إن أحدهم والمدعو، روغاتيانوس تخلى عن ماله كله بتأثير كلام أفلوطين وصرف كل خدمه وتنازل عن منصبه، وحتى فَقدَ بيته الخاص وكان يمضي أيامه في بيوت أصدقائه ومعارفه، يأكل في مكان وينام في آخر (الفصل 7). وكان الإمبراطور الروماني، غالييينوس وزوجته، سالونينـا يكرمـان أفلوطيـن ويحترمانـه كثيراً إلـى الحد الـذي ــ وبسبب أفكاره واتّباعه لأفلاطون ــ قررا أن يشيِّدا مدينة باسم «مدينة أفلاطون» ويخصصا المنطقة المحيطة بها له ليعيش الأشخاص الذين يسكنون في تلك المدينة وفق قوانين أفلاطون؛ لكن بعض حاشية البلاط حالوا دون تنفيذ ذلك القرار، حسداً، أو بغضاً، أو لسبب رديء آخر (م.ن، الفصل 12). 

 

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: