أصحاب الرأی
cgietitle
1442/9/28 ۱۳:۱۶:۲۰
https://cgie.org.ir/ar/article/236327
1446/10/22 ۱۷:۱۴:۱۸
نشرت
8
إن تعاظم نفوذ أصحاب أرأيت فـي الجيل الثالث للتابعين، تغلب تماماً على معارضي طرح المسائل التقديرية، وكان أصحاب «أرأيت» في هذه الفترة هم الذين يديرون حلقات و أوساط تدريس الفقه و بشكل خاص في الكوفة (ظ: ن.د، 5 / 665-666). وكان القاسم بن عبد الرحمان أحد فقهاء الكوفة من الجيل الثاني للتابعيـن الذي واجه عملياً ــ ربمـا بسبـب ممـارستـه القضـاء ــ مسائل لم تجد لها جواباً، يدعو تلميذه ذا النزعة إلى أرأيت، محـاربَ بـن دثـار إلى «الانبساط» فـي الفقـه (ظ: المرشـد بالله، 1 / 219). و في النصف الأول من القرن 2ه يُعدّ انتقال الفقه من مرحلته الأولى إلى مرحلة «الفقه التقديري»، أو المنظّم، تحولاً سريعاً رافق الاتجاه الواسع إلى الرأي والأساليب الاجتهادية التي لم تكن قد دُونت بعد، وكان هذا الأمر قد أدى بدوره إلى اختلافات كبيرة في الفتاوى و اضطراب في القضاء (ظ: ابن المقفع، 317، تلميحاً). وفي هذه الفترة تنامى استخدام الرأي و الأساليب الاجتهادية بشكـل واضـح، ويـعـدّ حـماد بـن أبـي سليـمـان (تـ 120ه ( من أوائل الشخصيات المؤثرة في تنظيم هذه الأساليب و في نقل فقه الكوفة الدرايي من فقه «أرأيت» إلى مدرسة أصحاب الرأي. وكان من أبرز الفقهاء الذين تربوا في مدرسة ابن مسعود، والذي كـان أهل العلـم يرجعون إليه ــ بشكـل أقـل ــ لسمـاع الآثـار، وبشكل رئيس للاطلاع على رأيه (ظ: ابن سعد، 6 / 232؛ أيضاً ظ: الذهبي، ميزان...، 1 / 569). وبهذا الصدد، فإن رؤية وكيع أحد فقهاء أصحاب الحديث من أهل الكوفة مدعاة للنظر، حيث يرى أن فقه الكوفة مدين لشخصية حماد (ظ: الترمذي، 1 / 401، 5 / 741). و في 96ه وبوفاة إبراهيم النخعي أستاذ حماد، أصبح هذا موئلاً يقصده أتباع مدرسة ابن مسعود (ظ: ابن سعد، ن.ص)، و إن هذا الأمر المتوقَّع جداً يظهر أن هيمنة اتجاه أصحاب «أرأيت» على فقه الكوفة ليس نتيجة سيطرة أقلية منبوذة، بل كان نتيجة تحول تدريجي وطبيعي في هيكلية الأفكار في الحلقات التقليدية للفقه الكوفي. وكحقيقة تاريخية ينبغي الإذعان إلى أن انتقال زعامة المسعوديين من إبراهيم إلى حماد كان انتقال زعامة الكوفة الفقهية من عربي أصيل إلى أعجمي من الموالي. و من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن عامر الشعبي ــ لدى حديثه عن حماد وأصحاب الرأي المهيمنين على الكوفـة ــ ذمّ فقههم بوصفـه الفقـه الموالي (ظ: م.ن، 6 / 175). و في مقام الاستنباط ربما أمكن البحث عن علاقة بين النفوذ الاجتماعي للموالي والاتجاه إلى التعامل الدرايي بالدراسة في المسائل الدينية و منها الفقه. وعلى أية حال، فإن جمع أقوال إبراهيم النخعي بشكل «كتاب» على يد حماد وكذلك معاصره الكوفي فضيل بن عمرو الفقيمي (الدارمي، 1 / 120؛ ابن سعد، 6 / 189)، يُظهر كيف أن حلقة درس إبراهيم النخعي بوصفه عالماً من معارضي أصحاب الحديث، ساهمت وطوال 3 أجيال متعاقبة في تبلور مدرسة أصحاب الرأي، وأدت إلى ظهور خَلَفٍ من الفقهاء الموالي مثل أبي حنيفة في الساحة. بادر حماد والبعض الآخر من تلامذة إبراهيم و في مواجهة تجنب الأخير غير المتشدد لكتابة العلم، عملياً إلى المصالحة بينه وبين الكتابة عن طريق تدوين تعاليمه. و برغم تهرب الأستاذ كان تلامذة أذكياء مثل حماد يعلمون جيداً كيف يجب أن تطرح المسائل التقديرية في مجلس إبراهيم لئلا يؤلمه شكل السؤال (مثلاً ظ: الدارمي، 1 / 52). و مع جلوس حماد على كرسي إبراهيم، اتجهت الأجواء الفقهية للكوفة إلى التغير السريع كما يرغب أصحاب «أرأيت»، ويتجلى انعكاس هذا التغير في حكاية عن الشعبي (يرجع تاريخها إلى السنوات 96-103ه(، اشتكى فيها من هيمنة حماد وأصحاب «أرأيت» على جامع الكوفة، وآثر العزلة (ظ: ابن سعد، 6 / 175). و فـي نفـس هـذا المجال ــ و خـلال العقديـن الأوليـن للقـرن 2ه ــ كان الفقه التقديري وإعمال الرأي بشكل واسع قد رسخ مكانته في بيئة الكوفة بشكل كان معه تقليديون مثل عبدة بن أبي لبابة يرون أنفسهم في ضيق (ظ: الدارمي، 1 / 67). و مع كل ذلك، وفيما يتعلق بأصحاب الرأي خلال هذه الفترة، يجدر القول إن جيل حماد لاينبغي أن يعدّ من أصحاب الرأي المنتصرين والمهيمنين على متّبعي الأثر، بل إن دور حماد و من يشاركه الفكر يمكن تصويره في حقيقة الأمر بتعبير الانسجام بين الرأي والأثر. وخلال هذه الفكرة، شقت ظاهرة أرأيت، أو اتساع نطاق التقدير الفقهي، طريقها ليس في الكوفة فحسب، بل في بلاد أخرى أيضاً، وكانت الأرضية قد هُيّـئت أيضاً إلى أن يتحول الفقه من شكل علم نقليّ نسبياً وغير مدوّن إلى علم درايي قابل للتنظيم و متجه للاتساع. و قد أدى تحول ظاهرة أرأيت بشكل تدريجي إلى ظاهرة عامة، وزوال الجدال في قبولها، إلى أن ينسخ اتجاه «أصحاب الأثر» المناهض للتقدير بمفهومه القديم من جهة، ومن جهة أخرى، إلى أن ينسى لقب أصحاب أرأيت الذي كان قد فقد في الأجيال اللاحقة موضوعيته كفريق متميز.
بنفس القدر الذي كانت فيه الكوفة بيئة مناسبة لتعاليم أصحاب أرأيت، وعلى أثر ظهور الأرضية التي كانت قد أُعدت بواسطة هذا الفريق، كان بإمكان هذه الأرضية أن تكون أفضل الأجواء ملائمة أيضاً لتبلور فئة تحمل عنوان أصحاب الرأي. وبرغم أن أفراد هذه الفئة يمكن أن يُعّدوا تاريخياً خلفاً لأصحاب أرأيت، لكن ينبغي الانتباه إلى أن صراعاتهم مع معارضيهم في العصر الحديث لم تعد بحث التقدير القديم و المنسي. و في الحقيقة، فإن تشكل طبقة أصحاب الرأي كان حصيلة بدء مرحلة أخرى من تكوين علم الفقه، أي مرحلة التدوين. ففي تلك الفترة، أي العقود الوسطى من القرن 2ه ،كان فقهاء «أهل الرأي» بحسب تعبير ذلك العصر، أو مؤيدو الفقه الدرايي بحسب التعبير المعاصر، بوصفهم طبقة من أهل العلم قد وقفوا في مواجهة طبقة أخرى تعرف بأصحاب الحديث و هي التي عدّت الحديث أساس علم الدين و هبّت لتعارض بشدة الرأي، أو التعامل الدرايي مع السنن، وكان هذا الدافع هو الذي جرّها إلى مواجهة أصحاب الرأي. وبالعودة إلى الحديث عن تدوين الفقه، ينبغي القول إن الفقهاء من أصحاب الرأي كانوا قد بدأوا حركة تدوين الفقه بشكل فاعل في زمن كان فيه علم الحديث ما يزال في مرحلة عدم التدوين، ولم يكن قد تجاوز حتى في شكله المدوّن صورة كراسات غير مرتبة. وبرغم أن أصحاب الرأي منذ أول ظهورهم وجدوا معارضة أصحاب الحديث أمامهم، لكنهم في الحقيقة كانوا قد رسخوا مكانتهم مع بداية ظهور الحركة العلمية للتدوين في علم الحديث في الربع الثالث من القرن 2ه بوصفهم أحد المجاميع العلمائية المتنفذة والقادرة على مجابهة أصحاب الحديث وكان تعارض أصحاب الرأي وأصحاب الحديث بوصفهما فئتين من العلماء ذوي دراسات وفروع مختلفة، لكن بموضوعات تتداخل أحياناً، يُستشعر بشكل جاد منذ تلك الفترة. إن النظريات التي تدور حول مراتب الأدلة الفقهية والواردة في قوالب روايات منقولة عن الصحابة والتي أشير إليها فيما مضى، و كانت تبين القواعد الدينية لاستخدام الرأي في فقه الكوفة قد بلغت ذروة رواجها في هذه الفترة، كما يستفاد من سلاسل الأسانيد (لمعرفة المصادر، ظ: السطور السابقة). ويظهر وجود شخصيات مثل سفيان الثوري بين رواة هذه الأحاديث (مثلاً ظ: الدارمي، 1 / 59؛ النسائي، 8 / 230-231) أن هذا الأسلوب لميكن مقتصراً على أصحاب الرأي و أن أصحاب الحديث في الكوفة أيضاً كانوا قد تقبلوه. وخلال هذه الفترة كان استخدام الرأي ــ بعد عدم العثور على الحكم في الأدلة النقليـة ــ أسلوباً عاماً لدى الكوفيين. و إن هذه الحالة قد تجلت حتى في الآثار غير الفقهية والمحايدة كذلك (مثلاً ظ: الصفار، 321-322؛ أبو الحسن العامري، 119-120). و في الحقيقة، فإن علماء أصحاب الحديث من أهل الكوفة مثل الثوري في القرن 2ه ، كانوا قد اقتربوا في أساليبهم من أصحاب الرأي إلى الحد الذي يصعب معه أحياناً الإصرار على وجود فرق آخر، سوى الاختلاف النوعي. وحتى بعض الفروق العقائدية مثل مسألة الإيمان و القيام بالسيف التي وضعت بعض الشخصيات مثل سفيان وأبي حنيفة في مواجهة بعضهما، لن تجد لها موضوعية بشأن الشخصيات التي لا تشوب عقائدها شائبة من وجهة نظر أصحاب الحديث. ولذا فليس مستغرباً أن يعدّ الثوري فقهاء الكوفة من أهل الرأي مثل ابن أبي ليلى و ابن شبرمة عالمينِ من فئته ويفخر بهما (ظ: الترمذي، 4 / 214).
لدى الحديث عن العلماء من أصحاب الرأي بالكوفة في المصادر المتقدمة، يُذكر على الدوام ثلاثة أشخاص أقدمهم ابن شبرمة، و من بعده ابن أبي ليلـى، ثم أبو حنيفة. فابن شبرمـة (تـ 144ه ) الذي تولى القضاء لفترة في الكوفة وبلاد أخرى، لم يكتفِ بأخذ العلم في الكوفة، فضلاً عن استفادته من الشعبي العالم الكوفي المعارض لأسلوب أرأيت، تلقى العلم على شيخي البصرة الحسن وابن سيرين، وعلى بعض التابعين في المدينة مثل سالم بن عبد الله (ظ: ن.د، 3 / 355-356). وبرغـم أن ابن شبرمـة كان قـد درس الحديـث، لكنـه لم يُعرف خلال مرحلة الدراسة بوصفه محدّثاً، بل بوصفه فقيهاً ذا رأي (ابن سعد، 6 / 244؛ عن نقاشاته الفقهية بينه و بين بقية الفقهاء من أصحاب الرأي، ظ: الدارمي، 1 / 148-150؛ ابن سعد، 6 / 233، 244).ظلت علاقة ابن شبرمة بحلقات درس حماد، وبأصحاب أرأيت في الكوفة بشكل مبدئي، غامضة في ترجمة حياته، لكن فيما يتعلق بأسلوبه الفقهي، فإن هذا الأمر الأساسي واضح و هو أنه كان يهتم عملياً باستخدام القياس، ويؤيد حجّيته من الناحية النظرية أيضاً (ظ: البسوي، 1 / 612؛ الخطيب، الفقيه...، 1 / 204). وكان ارتباط أسلوبه الفقهي بالقياس قد بلغ حداً أن عُدّ من أصحاب القياس في حديث عن الإمام الصادق (ع) (ظ: الكليني، 1 / 57). ومن جهة أخرى، ينبغي التذكير بحكايات مفادها أن ابن شبرمة لميكن يبدي رغبة في الرد على أسئلة مبتكرة شأنه شأن معارضي الأسئلة التقديرية المتقدمين (ظ: الدارمي، 1 / 72؛ ابن بطة، 1 / 406، 418). وبين طريقة ابن شبرمة وطريقة أبي حنيفة سواء من حيث الأسلوب، أو من حيث التقدم الزماني، ذكرت طريقة ابن أبي ليلى (تـ 148ه( بوصفها موضعاً وسطاً ظلت تسود القضاء في الكوفة لسنوات؛ و قد أدرك خلال مرحلة دراسته مجلس الشعبي وخليفته الحكم بن عتيبة و كذلك القاسم بن عبد الرحمان من الفقهاء المعارضين للتقدير في الكوفة، واستفاد أيضاً من الفقية ذي الرأي بمكة عطاء بن أبي رباح (ظ: ن.د، 2 / 351). و في طريقة قريبة من طريقة أبي حنيفة كان ابن أبي ليلى قد بنى فقهه بعد الكتاب والسنة على أساس اتفاق الصحابة واعتبار نفسه مخيراً في حالة اختلاف هؤلاء في الاجتهاد (ظ: القاضي النعمـان، 1 / 92-93؛ أيـضـاً الكلينـي، 7 / 408)، لكـن يبـدو أنـه ــ ولكونه في القضاء واستخدام الرأي يميل إلى الاحتياط ولايبدي رغبة في إصدار أحكام جازمة و إن كانت مستغربة ــ كان يُنتقد من قبل أبي حنيفة (ظ: ابن خلكان، 4 / 179-180). و قد أظهر يوزف شاخت من خلال مقارنة تحليلية بين آراء هذين الاثنين، أن فقه ابن أبي ليلى فقه عملي ناجم عن مقتضيات العمل بالقضاء، ولم يكن رأيه بشكل عام يتمتع بتنظيم رأي أبي حنيفة ونضجه (صص 294 ff.) وبتأليفه أثراً بعنوان المصنف (ابن سعد، 6 / 283) وكذلك الفرائض (ابن النديم، 256)، فإن ابن أبي ليلى هو في عداد أوائل الكتّاب من أصحاب الرأي. و إن الإشارات المتناثرة مثل حكاية أبي داود السجستاني (مسائل، 295) القائمة على إفتاء معبد بن راشد العالم الكوفة في القرن 3ه وفقاً لمذهب ابن أبي ليلى، وكذلك الإشارة إلى أتباع ابن أبي ليلى في عداد أهل السنة في الفرق للبغدادي (ص 277)، تدل على أن مذهبه ــ بشكل محدود بطبيعة الحال ــ كان له أتباع أيضاً. والشخصية الثالثة التي هي رأس هذا المثلث ورمز أصحاب الرأي في تاريخ الفقه هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت المرتبط بمدرسة أصحاب ابن مسعود، والذي تعلم الفقه على حماد بن أبي سليمان لمدة 18 سنة (ظ: الخطيب، تاريخ، 13 / 333). و في نظرة تحليلية إلى الأسلوب الفقهي لأبي حنيفة بوصفه أول ممثل للفقه المنظم لأصحاب الرأي، يجدر القول إنه ولدى تعامله مع أدلة السنن، لم يكن يعد الأخبار الضعيفة وغير الثابتة (بحسب تعبيره) موثوقة لإثبات السنة النبوية، و في حالات تعارض الأخبار كان يضع جانباً السنة غير الثابتة في مقابل السنة الثابتة. وخلال تعامله مع آراء الصحابة كان يعدّ اتفاقهم حجة، و في حالة الاختلاف يرى نفسه مخيراً في الاختيار بحسب الرأي. وفيما يتعلق بالرأي و القياس، ينبغي التذكير بأنه برغم شهرة أبي حنيفة بالاتجاه للرأي، إلا أن التمسك بهذه الأساليب في فقهه لم يكن غير محدود. ففي هذا النظام الفقهي، تكون الأحكام التعبدية تابعة للنصوص الشرعية، و أن أكثر المجالات لاستخدام الرأي في تلك المجموعة من أحكام الشريعة هي تلك التي تتعلق بموضوعات الحياة اليومية. و قد ذمّ المبالغة في استخدام القياس (ظ: ابن عدي، 7 / 2476). ويبدو أحياناً أنه لما كان يعدّ استخدام القياس العام في بعض الحالات قبيحاً، فقد كان يخصص مدلول ذلك القياس بتمسكه بأثر، ذلك الأثر الذي ربما كان يعد بحد ذاته دليلاً ضعيفاً لديه، وكان دافع درايي يدعوه إلى تقديم ذلك الأثر (لمزيد من التفصيل، ظ: ن.د، 4 / 528-533). وإلماعاً إلى ذلك، ينبغي القول إن الفقهاء من أصحاب الرأي في القرن 2ه في البلدان الأخرى كان حضورلهم في الميدان أيضاً، حيث يمكن أن يذكر من بينهم عبيد الله العنبري وعثمان البَتّي في البصرة، وابن جريج في مكة، وربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري في المدينة (مثلاً ظ: ابن سعد، 7(2) / 21؛ الليث، 84)، لكن أوساط هذا الفريق من الفقهاء اختلطت بأوساط أصحاب الحديث إلى حد يصعب معه وضعهم إلى جانب فريق أصحاب الرأي بالمفهوم الكوفي وبشكل خاص الحنفية منهم.
كان أبو حنيفة يروّج لحرية التفكير في الفقه، و لم يكن يدعو أحداً على الإطلاق إلى تقليده تقليداً أعمى (ظ: ابن عبدالبر، 145)، و من الناحية العملية أيضاً تظهر مقارنة بين آراء أبي حنيفة وآراء تلامذته بوضوح أنهم لم يكونوا مقلدين لأبي حنيفة، وكانوا ينبرون كمجتهدين لاستنباط الأحكام بشكل مباشر من مصادرها. و في بعض الحالات كانوا يبدون آراء معارضة لآراء أستاذهم. و من الناحية التاريخية، فإنه بالرغم من أن أوساط أصحاب الرأي تأثرت سريعاً وبشكل مباشر بأبي حنيفة و أصبحت نواة لتشكل المذهب الفقهي الحنفي، إلا أن ذلك لايعني أن مدرسة أصحاب الرأي في الكوفة قد قطعت نهائياً صلاتها بماضيها. وأبرز الأمثلة على الاتجاه غير الحنفي في فقه أصحاب الرأي خلال عصر تلامذة أبي حنيفة، بل وحتى أجيال عديدة أعقبتهم، الاهتمام الملحوظ بآراء ابن أبي ليلى. وبرغم أنه قلما يُلاحظ اهتمام في المصادر بعلاقة الفقه الحنفي المتقدم، أو بتعبير أدق بفقه أصحاب الرأي بعد أبي حنيفة، بابن أبي ليلى، لكن وبالبحث في الآثار الباقية من أبي يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء الحنفية الأكثر تأخراً، يتضح أن نسبة تأثير وأهمية آراء ابن أبي ليلى في النظام الفقهي لتلامذة أبي حنيفة وبشكل عام الفقه الحنفي، كانت ملحوظة (ظ: ن.د، 5 / 516؛ أيضاً أبويوسف، «اختلاف...»، كافة أرجـاء الكتـاب؛ الطحـاوي، كافة أرجـاء الكتاب؛ فهـارس...، 572-573؛ فتاوى...، 115، 122). و في نظرة إلى الهوية الفقهية لتلامذة أبي حنيفة ينبغي القول إن بعضهم كانوا وإلى وقت بعيد معروفين في المصادر الفقهية ليس بوصفهم فقهاء حنفية، بل كفقهاء من أصحاب الرأي مع استقلال في المذهب. وجدير بالذكر أنه خلال قرون طويلة كان اثنان من تلامذة أبي حنيفة المبرزين على الدوام يأتون في المرتبة الثانية والثالثة في الفقه الحنفي، ويشكلون مع أستاذهم، الأركان الثلاثة لهذا المذهب. ففي المصادر الحنفية وغيرها يلاحظ عـادة اسم محمد بن الحسن الشيبانـي (تـ 179ه ) إلى جانب أبي يوسف بوصفهما ركني هذا المذهب، لكن و بنظرة تاريخية يتضح أنه في عصر أبي حنيفة نفسه والفترة القريبة منه كان أبو يوسف وزفـر بن الهذيل العنبـري (تـ 158ه( هما اللذين عُرفا بوصفهما تلميذي أبي حنيفة البارزين و في الطبقة الأولى. و في الروايات الخاصة بتلك الفترة أشير إليهما كمتنافسين في حلقة درس أبي حنيفة (مثلآً ظ: الصيمري، 95، 105-107)، و قد كان هذا الأمر الدافع إلى تأليف أثر أيضاً بعنوان اختلاف زفر ويعقوب (ظ: السرخسي، 4 / 106). ويمكن القول إن شخصية أبي حنيفة و اهتمام الحنفية به بوصفه أحد أركان المذهب في تاريخ الفقه، غطت على استقلالية أبي يوسف الفكرية في الفقه. و مقارنة بفقه أبي حنيفة، يتمتع فقه أبي يوسف من حيث المصادر النقلية، بتنوع محلي أكبر، و إن كثيراً من مواضع اختلافه مع أستاذه يرجع إلى هذا العامل. و من حيث استخدام الرأي تجدر الإشارة ــ من بين سمات فقه أبي يوسف ــ إلى اتجاهه الخاص للاستسحان. و في كثير من حالات الاستحسان و ترك القياس تلك، يوجد على الجانب المعارض أثر، أو فتوى لفقيه متقدم (مثلاً أبو يوسف، الخراج، 189)، مما لايمكن أن يكون بذاته و في أسلوبه الفقهي أساساً راسخاً لحكم الفقيه، لكـن للـرأي ــ خـلال ذلك ــ دور لايمكن تجاهله، حيث كان بإمكانه التعويض عن الضعف الحاصل في إسناد الأثر. و إن واحدة من معطيات الفقه الاستحساني لأبي يوسف، قاعدة قبول الأحكام للتغيير، فاستناداً إليها، فإن التكاليف الشرعية قابلة للتغيير بتغيّر الزمان والمكان والظروف. وباستناده إلى أن الأحكام الشرعية التي تدور مدار العرف، يمكن لهذا الحكم أن يتغير بتغير العرف، بل وحتى في حـالات كهذه، عَدّ صدور حكم مخالـف لمنطوق النص مستنداً إلى علة التشريع، أمراً جائزاً (كمثال، ظ: ن.م، 85-86؛ أيضاً لتحليل أسلوبه الفقهي، ظ: ن.د، 5 / 516- 518؛ أيضاً عن دور أصحاب الرأي في تدوين علم الأصول، ظ: ن.د، أصول الفقه).و في العصور اللاحقة لم ينسخ مصطلح أصحاب الرأي إطلاقاً، وظل دوماً مستخدماً في المصادر الفقهية وغير الفقهية، لكن في هذا الاستخدام، كان هذا المصطلح تعبيراً آخر عن المذهب الحنفي. و في الحقيقة، فإنه بعد تبلور المذاهب الفقهية منذ القرن 4ه والاتجاه إلى تحديد المذاهب، وباستثناء عدد قليل من الأتباع المحتملين لابن أبي ليلى، فإن مدرسة أصحاب الرأي كانت تتجلى في المذهب الحنفي. ولذا، فإن البحث في تاريخ المتأخرين من أصحاب الرأي ينبغي أن يتم عن طريق البحث في تاريخ الحنفية.
ابن أبي شيبة، عبدالله، المصنف، بومباي، 1400ه / 1980م؛ ابن بطة العكبري، عبيد الله، الإبانة عن شريعة الفرق الناجية، تق : رضا بن نعسان معطي، الرياض، 1409ه / 1988م؛ ابن خلكان، وفيات؛ ابن سعد، محمد، كتاب الطبقات الكبير، تق : زاخاو و آخرون، ليدن، 1904-1915م؛ ابن عبد البر، يوسف، الانتقاء، بيروت، دار الكتب العلمية؛ ابن عدي، عبدالله، الكامل، بيروت، 1985م؛ ابن قتيبة، عبدالله، تأويل مختلف الحديث، بيروت، دارالجيل؛ م.ن، المعارف، تق : ثروت عكاشة، القاهرة، 1960م؛ ابن المقفع، عبدالله، «رسالة في الصحابة»، آثار ابن المقفع، بيروت، 1409ه / 1989م؛ ابن النديم، الفهرست؛ أبو الحسن العامري، محمد، الإعلام بمناقب الإسلام، تق : أحمد عبد الحميد غراب، القاهرة، 1967م؛ أبو داود السجستاني، سليمان، سنن، تق : محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، دار إحياء السنة النبوية؛ م.ن، مسائل الإمام أحمد، القاهرة، 1353ه / 1934م؛ أبو نعيم الأصفهاني، أحمد، حلية الأولياء، القاهرة، 1351ه / 1932م؛ أبويوسف، يعقوب، «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، مع ج 7 لكتاب الأم للشافعي، بيروت، دار المعرفة؛ م.ن، الخراج، بيروت، 1399ه / 1979م؛ البسوي، يعقوب، المعرفة والتاريخ، تق : أكرم ضياء العمري، بغداد، 1396ه / 1976م؛ البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفـرق، تق : إبراهيـم رمضان، بيـروت، 1415ه / 1994م؛ الترمـذي، محمـد، سنـن، تق : أحمد محمد شاكر وآخرون، القاهرة، 1357ه / 1938م و ما بعدها؛ الخطيب البغـدادي، أحمـد، تاريـخ بغـداد، قـاهـرة، 1349ه / 1931م؛ م.ن، الفقيـه والمتفقـه، تق : إسماعيل الأنصاري، دمشق، 1395ه / 1975م؛ الدارمي، عبدالله، سنن، دمشق، 1349ه ؛ الذهبي، محمد، سير أعلام النبلاء، تق : شعيب الأرنؤوط ومأمون الصاغرجي، بيروت، 1405ه / 1985م؛ م.ن، ميزان الاعتدال، تق : علي محمد البجاوي، القاهرة، 1382ه / 1963م؛ السرخسي، محمد، المبسوط، القاهرة / بيروت،1406ه / 1986م؛ الصفار، محمد، بصائر الدرجات، طهران، 1404ه ؛ الصنعاني، عبدالرزاق، المصنف، تق : حبيب الرحمان الأعظمي، بيروت، 1403ه / 1983م؛ الصيمري، الحسين، أخبار أبي حنيفة وأصحابه، حيدرآباد الدكن، 1394ه / 1974م؛ الطحاوي، أحمد، اختلاف الفقهاء، تق : محمد صغير حسن المعصومي، إسلام آباد، 1391ه ؛ فتاوى النوازل، المنسوب لأبي الليث السمرقندي، كويته، 1405ه / 1985م؛ فهارس المبسوط لمحمد السرخسي، تق : خليل الميس، بيروت، 1400ه / 1980م؛ القاضي النعمان، دعائم الإسلام، تق : آصف فيضي، القاهرة، 1383ه / 1963م؛ الكليني، محمد، الكافي،تق : عليأكبر الغفاري، طهران، 1391ه ؛ الليث بنسعد، «رسالة إلى مالك بن أنس»، مع ج 3 من إعلام الموقعين لابن القيم، تق : طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة، 1968م؛ مالكبن أنس، الموطأ، مع حاشية الكاندهلوي، كراتشي، مكتبة آرام باغ؛ المرشد بالله، يحيى، أمالي، بيروت، 1403ه / 1984م؛ النسائي، أحمد، سنن، القاهرة، 1348ه / 1930م؛ و أيضاً:
Schacht, J., The Origins of Muhammadan Jurisprudence, Oxford, 1953.
أحمد پاكتچي / ه
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode