الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / أسد بن الفرات /

فهرس الموضوعات

أسد بن الفرات

أسد بن الفرات

تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/14 ۱۸:۵۵:۴۱ تاریخ تألیف المقالة

أَسَدُ بْنُ ‌الْفُرات‌، أبو‌عبـد‌اللـه (142-213ه‍/ 759- 828م)، فقيه و قاض‌ و من‌ الأفراد المؤثرين في تدوين‌ الفقه‌ المالكي. جده‌ سنان‌ كان‌ ينتمي إلى‌ بني سليم‌ بالولاء، و لكن‌ ابن‌ الخطيب‌ (1/430) رأى‌ أن‌ جده‌ هو بشر بن‌ أسد المُرّي (أيضاً ظ: ابن‌‌الأبار، 2/380).

و ذكر‌ بعض‌ المصادر أيضاً سنوات‌ لولادته‌ تقع‌ بين‌ 143و145ه‍، و سنوات‌ لوفاته‌ بين‌ 214و217ه‍ (ظ: السراج‌ الأندلسي، 1(3)/755). و ذكر أقدم‌ مصدر أن‌ ولادته‌ في خراسان‌، وذكر‌ بعض‌ المصادر أن‌ منشأه‌ حرّان‌ (أبوالعرب‌، طبقات‌ ...،163؛ المالكي، 172). و لاتعد إشارة ابن‌ الخطيب‌ (ن‌.ص‌) إلى‌ كونه‌ من‌ غرناطة معتداً بها. ذهب‌ أبوه‌ الفرات‌ في جملة أمراء الجيش‌ (الذهبي، 10/225) مع‌ جيش‌ محمد بن‌ الأشعث‌ الخزاعي إلى‌ القيروان‌ في144ه‍، و اصطحب‌ معه‌ أسداً الذي كان‌ عمره‌ آنذاك سنتين‌. و بعد 5 سنوات‌ من‌ الإقامة في تلك المدينة ذهب‌ إلى‌ تونس‌، و بقي فيها حوالي 9 سنوات‌. حضر أسد في الثامنة عشرة من‌ عمره‌ حلقة درس‌ علي بن‌ زياد التونسي التلميذ المغربي لمالك‌بن‌ أنس‌ (المالكي، 1/172-173؛ ابن‌ الأبار، 2/380-381). وبعد هذه‌ الفترة التي استمرت‌ حتى‌ حوالي 162ه‍/ 779م‌، سار نحو المشرق‌ لتعلم‌ العلوم‌ الإسلامية. و من‌ المحتمل‌ أنه‌ سافر إلى‌ الري في هذه‌ الفترة، و تلقى‌ العلم‌ فيها عند جرير بن‌ عبدالحميد (ابن‌‌ماكولا، 4/455).

و في هذه الفترة كانت‌ المدينة و العراق‌ تتعهدان‌ الفقهين‌ المالكي و الحنفي من‌ خلال‌ حضور مالك بن‌ أنس‌ في المدينة، وأبي حنيفة في العراق‌. و رغم‌ أن‌ الرواة ذكروا أن‌ أسداً تعلم‌ القرآن‌ لدى‌ علي بن‌ زياد التونسي، و لكن‌ من‌ المستبعد أن‌ يكون‌ أسد في جلسات‌ الدرس‌ هذه،‌ عديم‌ الاطلاع‌ على‌ الموطأ وأسلوب‌ تعامل‌ مالك مع‌ المسائل‌ الفقهية. و من‌ المحتمل‌ أن‌ أسداً حضر حلقة درس مالك في المدينة في 172ه‍ بهذه‌ السابقة من‌ الاطلاع‌ (المالكي، 1/173-174)، و لكن‌ هذا الحضور لم‌‌يدم‌ طويلاً بسبب‌

الخصائص‌ الأخلاقية التي كان‌ يتميز بها أسد. كان‌ أسد عازماً على‌ أن‌ يكتسب‌ أكبر قدر ممكن‌ من‌ العلوم‌ من‌ شيوخ‌ زمانه‌، وكان‌ إنهاء دورة دروس‌ مالك يتطلب‌ مدة طويلة. و لم‌‌يكن‌ أسد يحتمل‌ ذلك، فكان‌ يميل‌ إلى‌ التعلم‌ أكثر من‌ خلال‌ طرح‌ الأسئلة المختلفة وهذا ما لم‌‌يكن‌ يعجب‌ مالكاً، و من‌ جهة أخرى‌، فإن‌ مالكاً وباعتباره‌ فقهياً كان‌ يتمسك في المسائل‌ الفقهية بالنصوص‌ أكثر من‌ الرأي و القياس‌، كان‌ قد أدرك أن‌ أسداً كان‌ ينظر في الغالب‌ بمنظار أصحاب‌ الرأي إلى‌ المسائل‌ الفقهية، و أن‌ نظرته‌ تشبه‌ فقهاء العراق‌: و لذلك فإنه‌ عندما ضاق‌ ذرعاً بأسئلة أسد المتوالية، اقترح‌ عليه‌ صراحة أن‌ يتجه‌ إلى‌ مدرسة‌ أهل‌ العراق‌ إن‌ كان‌ يميل‌ إلى‌ الرأي (م‌.ن‌، 1/174؛ القاضي عياض‌، 2/466؛ الدباغ‌، 2/6).

و على‌ أي حال‌، فإن‌ استعجال‌ أسد في الالتقاء بالشيوخ‌ المختلفين‌، و كذلك اهتمامه‌ بالرأي، قاداه‌ إلى العراق‌، حيث‌ عاش‌ جواً جديداً في الكوفة في محضر درس‌ أبي‌يوسف‌ ومحمد‌بن‌‌الحسن‌ الشيباني (أبوالعرب‌، ن‌.م‌، 163-164؛ القاضي عياض‌، 2/465، 466-467)، و قد أوكل‌ أبويوسف‌ تدريس‌ أسد بإشارة إلى‌ محمد بن‌ الحسن‌. و بذلك فإن‌ الاستفادة الأكثر لأسد من‌ آراء أبي‌حنيفة كانت‌ عن‌ طريق‌ محمد بن‌ الحسن‌ (ن‌.ص‌). وقد واجه‌ أسد محمد بن‌ الحسن‌ بنفس‌ الروح‌ المتطلعة إلى‌ المزيد من العلم و التي عرفناها عنه‌ في المدينة. ولم‌‌يدرّسه‌ محمد بن‌ الحسن‌ العلم‌ وحسب‌، بل إنه لم‌‌يقصر في مساعدته‌ عندما علم‌ أن‌ أسداً «ابن‌‌سبيل‌» و أنه‌ محتاج‌ مالياً. كان‌ أسد يتلقى‌ العلم‌ نهاراً في مجالس‌ الدرس‌ العامة، و في بعض‌ الساعات‌ من‌ محمد بن‌ الحسن‌ بشكل‌ مستقل‌ (المالكي، 1/175-176؛ القاضي عياض‌، ن‌.ص‌). وبالطبع‌ فإن‌ هذا التلقي للعلم‌ كان‌ ذا جانبين‌، فنحن‌ نلاحظ بين‌ الرواة عن‌ أسد بن‌ الفرات‌ اسم‌ محمد بن‌ الحسن،‌ بل‌ و حتى‌ أبي‌يوسف‌ أيضاً، و سبب ذلك أن‌ أسداً كان‌ يروي لهم‌ موطأ مالك (م‌.ن‌، 2/465). واصل‌ أسد تلقيه‌ العلم‌ من‌ العراق‌ حتى‌ بلغ‌ في 179ه‍ خبر وفاة مالك الكوفة، حيث تألم الجميع‌ لذلك. و يبدو أن‌ أسداً لم‌‌يكن‌ قد أدرك حتى‌ ذلك الوقت‌ مرتبة مالك، فسأل‌ متعجباً عن‌ سبب‌ الحزن‌ البالغ‌ الذي سيطر على‌ محمد بن‌ الحسن‌ وفقهاء العراق‌، فشعر‌ بعد الجواب‌ الذي سمعه‌ من‌ محمد بن‌‌الحسن‌ أنه‌ فقد غنيمة، و هكذا فقد قرر تلافيها، و عزم‌ على‌ أن‌ لايفوت‌ مجالس‌ درس‌ تلامذة مالك، و لذلك توجه‌ إلى‌ مصر (أبوإسحاق‌، 155-156؛ القاضي عياض‌، 2/ 468-469).

و فيما يتعلق‌ بأول‌ تعامل‌ له‌ مع‌ تلامذة مالك، و اختيار أفضل‌ أستاذ بينهم،‌ فقد جاء في رواية أنه‌ حضر في البدء بمصر في حلقة درس‌ عبداللّه‌ بن‌ وهب‌، و طرح‌ عليه‌ بعض‌ الأسئلة، و طلب‌ الإجابة عليها بناء على‌ وجهة نظره،‌ لا على‌ الرواية، و لكن‌ ابن‌‌وهب‌ لم‌‌يجبه‌ بسوى‌ الروايات. فاتجه‌ إلى‌ الأشهب‌ و طلب‌ منه‌ أن‌ يجيبه‌ على‌ أساس‌ الرواية عن‌ مالك، فأجابه‌ الأشهب‌ برأيه‌. وفي نهاية المطاف‌ دخل‌ أسد على‌ ابن‌ القاسم‌، و أدرك أن‌ بلوغ‌ مايريده‌ يمكن‌ أن‌ يحققه‌ في مجلسه‌ (م‌.ن‌، 2/ 469-470). و هكذا، فقد أخذ منذ ذلك الحين‌ يحضر بشكل‌ مستمر درس‌ ابن‌ القاسم‌، وبعد إنهائه‌ دورة الدروس‌ ذهب‌ إلى‌ القيروان‌ في‌ 181ه‍، و انشغل‌ بالتدريس‌ بعد أن‌ أحاط علماً بمدرستي العراق‌ و المدينة، و ربّى‌ تلامـذة كثيريـن‌ مثـل‌ سحنـون‌ بـن‌ سعيـد و معمـر بـن‌ منصـور و دراس‌‌بن‌ إسماعيل‌ (أبوالعرب‌، طبقات‌، 166، 198؛ المالكي، 1/182؛ ابن‌‌القاضي، 194).

و على‌ أي حال‌، فإن‌ حضور أسد في مجلس‌ درس‌ ابن‌ القاسم،‌ المقترن‌ بالأسئلة الكثيرة و دقة النظر، يعد أحد أهم‌ الخطوات‌ الأولى‌ في تدوين‌ الفقه‌ المالكي. و في هذه‌ المجالس‌، كان‌ ابن‌‌القاسم‌ يسعى‌ لأن‌ يجيب‌ قدر إمكانه‌ على‌ أسئلة أسد استناداً إلى‌ ماتعلمه‌ من‌ مالك. و لذلك فقد كان‌ في بعض‌ الحالات‌ يذكر أمام‌ تساؤلاته‌ كلمات‌ تدل‌ على‌ شكه‌ في مسموعاته‌ (ظ: ن‌.د، 3/672). وقد جمع‌ أسد في نهاية المطاف‌ و خلال‌ بضع‌ سنوات‌، الآراء التي أخذها من‌ ابن‌ القاسم‌ في مجموعة بعنوان‌ الأسدية.

و تحظى‌ كيفية تعامل‌ مالك مع‌ أسئلة أسد في فترة زمنية معينة، وكيفية جلسات‌ الأسئلة و الأجوبة بين‌ أسد و ابن‌ القاسم‌، بأهمية بالغة في الدراسة التاريخية للانتشار «التقديري» للفقه‌ المالكي. و رغم عدم‌ توفر معلومات‌ كافية عن‌ موضوع‌ تساؤلات‌ أسد من‌ مالك، إلا أن‌ من‌ الواضح‌ أن‌ السؤال‌ بحد ذاته‌ لم‌‌يكن‌ من‌ شأنه‌ أن‌ يؤذي مالكاً، بل‌ يبدو أن‌ مالكاً كان‌ يعارض‌ الإفراط في طرح‌ المسائل‌ الفرضية التي لاتحدث‌ إلا نادراً من‌ الناحية العملية، ولايمكن‌ أن‌ تصدر إلا من‌ متسائل‌ متفحص. و استناداً إلى‌ جملة مالك بشأن‌ طرد أسد باتجاه‌ العراق‌، و مع‌ الأخذ بعين‌ الاعتبار الأسلوب‌ التقديري في فقه‌ العراق‌، فإن‌ هذه‌ النظرة تؤيد، و من‌ الطبيعي أن‌ نزعة أسد هذه أصبحت أكثر شدة من‌ خلال‌ ماتعلمه‌ من‌ دروس‌ أهل‌ العراق‌. و عندما قابل‌ ابن‌ القاسم‌، استخدم‌ أسلوب‌ التفريع‌ نفسه‌. و كان‌ ابن‌ القاسم‌ يطرح‌ الجواب‌ في الحالات‌ التي كان‌ فيها لمالك رأي خاص‌، و في غير هذه‌ الحالة إما أنه‌ كان‌ يبين‌ رأيه‌، أو يتوسل‌ بالقياس‌ استناداً إلى‌ رأي مالك في مسألة مشابهة (ظ: القاضي عياض‌، 2/ 469). و هكذا، فقد مزج‌ أسد بين‌ هذين‌ الأسلوبين‌ الفقهيين‌ من‌ خلال‌ إدخال‌ الفرض‌ و التقدير في الفقه‌ المالكي الذي تضمن‌ بشكل‌ طبيعي تفريع‌ المسائل‌، و كان‌ بحد ذاته‌ ينتهي إلى‌ الاستنباط و القياس‌ (ظ: ابوزهرة‌، مالك، 465-466).

و يمكن‌ اعتبار تأثير أسد هذا من‌ أهم‌ تأثيراته‌ على‌ تاريخ‌ الفقه‌ المالكي، و خاصة من‌ باب‌ أن‌ الأسدية المشتملة على‌ 60 جزء جمعت‌ بهذا الأسلوب‌ (ظ: القاضي عياض‌، 2/470)؛ و هو المؤلَّف‌ الذي يعد على‌ أي حال‌ أول‌ خطوة في طريق‌ تدوين‌ فتاوى مالك بمساعي أسد، و عن‌ طريق‌ ابن‌ القاسم‌ بعد 179ه‍. ذهب أسد إلى‌ القيروان‌ في 181ه‍ (أبوالعرب‌، ن.م‌، 166)، و عرض‌ كتابه‌ على‌ أهاليها، و لكنهم‌ لم‌‌يبدو رغبة كبيرة فيه‌ بسبب‌ وجود تلك الكلمات‌ المشكّكة في الكتاب‌. و قد قدم‌ سحنون‌ الذي كان‌ قد حصل‌ على‌ نسخة من‌ الأسدية، على‌ ابن‌‌القاسم‌ في 188ه‍، وعرض‌ مخطوطته عليه، فحذف‌ ابن‌ القاسم‌ من‌ خلال‌ الدقة في حالات‌ التردد، تلك الكلمات‌ المشكّكة في النقل‌ عن‌ مالك، وطرح‌ بعض‌ الآراء على‌ أساس‌ الاجتهاد الشخصي. و قد أطلق‌ سحنون‌ على‌ المجموعة الجديدة التي كانت‌ تفترق‌ عن‌ الأسدية ببعض‌ الاختلافات‌، اسم‌ المدونة المختلطة. و لاشك في أن‌ ابن‌ القاسم‌ أيد ماجمعه‌ سحنون‌ من‌ خلال‌ التغييرات‌ التي أوجدها هو نفسه‌ في هذه‌ المجموعة. و قد بعث‌ في 191ه‍/807م‌ بيد سحنون‌ رسالة إلى‌ أسد، و اعتبر فيها المدونة ناسخة للأسدية. و استناداً إلى‌ إحدى‌ الروايات‌ فقد عزم‌ أسد على‌ تصحيح‌ كتابه‌، و لكن‌ بعضاً من‌ أصحابه‌ منعوه‌ من‌ ذلك. و استناداً إلى‌ رواية أخرى‌، فقد غضب‌ أسد عندما علم‌ بقول‌ ابن‌ القاسم‌، و لم‌‌يذعن‌ لذلك، بل‌ إن‌ البعض‌ رأوه‌ و هو يبكي بسبب‌ عدم‌ الاهتمام‌ بكتابه‌ (المالكي، 1/182-183؛ القاضي عياض‌، 2/470-472؛ ابن‌ خلكان‌، 3/181-182). وعلى‌ أي حال‌، فإن‌ اهتمام‌ الناس‌ الواسع‌ بالمدونة غطى‌ على‌ الأسدية، فنُسيت‌ سريعاً (ظ: أبوإسحاق‌، 156؛ ابن‌ رشد، 1/27- 28؛ ابن‌ خلكان‌، ن‌.ص‌).

و استناداً إلى‌ المعلومات‌ المتفرقة الموجودة، فقد ظهر منذ ذلك الحين‌ نوع‌ من‌ الازدواجية في شخصية أسد. و قد اتجه‌ أسد إلى‌ كتب‌ أبي حنيفة وكان‌ يرويها بسبب‌ خيبة أمله‌ فيما يتعلق‌ بمسألة الأسدية على‌ ماصرح‌ القاضي عياض‌ (2/473). و قد انتشر هذا الموضوع‌ إلى‌ حد بحيث‌ إن‌ المالكي نفسه‌ (1/181)، و السراج الأندلسي تبعاً له‌ (1(3)/750) يقدمه‌ باعتباره‌ إمام‌ العراقيين‌ وأعلمهم‌ في القيروان‌، حتى‌ إن‌ ابن‌ حزم‌ (ص‌ 8) يذكر أسداً بتعبير «صاحب‌ أبي يوسف‌» (أيضاً ظ: المقري، 3/162). و مما يستحق‌ الالتفات‌، رواية المقدسي (ص‌ 237) الناقصة و المضطربة و التي تفيد بأن‌ فقه‌ أبي حنيفة انتشر في المغرب‌ عن‌ طريق‌ أسد ابن‌الفرات‌ (الضبط هو: أسد بن‌ عبداللّه‌، بسبب‌ الخلط) (أيضاً ظ: أبوزهرة‌، أبوحنيفة، 462-463). و رغم‌ أن‌ الحنفيين‌ كانوا متواجدين‌ في المغرب‌ قبل‌ أسد و لكننا يمكن‌ أن‌ نعتبر القول‌ السابق‌ نوعاً من‌ الإشارة إلى‌ أن‌ هذه‌ الفئة تقدمت‌ و اقتدرت في عهد أسد. و لكن‌ الميل‌ الباطني لأسد إلى‌ فقه‌ مالك، و ابن‌ القاسم‌، والمدونة بقي على‌ حاله‌، من‌ جهة أخرى‌. و في عهد تصديه‌ للقضاء و عندما أحرق‌ سليمان‌ الفارسي كتبهم‌ و المدونة كمعارضة لأهل‌ المدينة، فإن‌ هذا العمل‌ وقع‌ موقعاً سيئاً على‌ أسد بحيث‌ جلده‌ بالسوط (أبوالعرب‌، المحن‌، 435؛ القاضي عياض‌، ن‌.ص‌).

و رغم‌ ما ذكر من‌ أن‌ مجموعتين‌ من‌ التلامذة ذوي الميول‌ المدنية والعراقية كانوا يحضرون‌ مجالس‌ درس‌ أسد، و أنه‌ كان‌ يروي للمدنيين‌ عن‌ مالك، و للعراقيين‌ عن‌ أبي حنيفة (م‌.ن‌، 2/474-475)، و لكنه‌ استناداً إلى‌ رواية مالكية، عبر عن‌ رأيه‌ حول‌ هذين‌ المذهبين‌ مجيباً على‌ أحد الأسئلة قائلاً إنكم‌ إن‌ أردتم‌ الدنيا فاتجهوا إلى‌ أبي حنيفة، و إن‌ أردتم‌ الآخرة فاتجهوا إلى‌ مالك (م‌.ن‌، 2/ 478). و من‌ خلال‌ استنتاج‌ عام‌ حول‌ منهج‌ أسد الفقهي، يبدو قول‌ المالكي هذا (ن‌.ص‌) مستحقاً للتوقف‌ عنده‌ وهو إنه‌ و باعتباره‌ فقيهاً متبحراً في فقه‌ مدرستي المدينة و الكوفة، كان‌ يختار من‌ آرائهما، و يرجح‌ في المسائل‌ المختلفة رأي أحدهما على‌ الآخر فيما يبدو له‌ أكثر صحة، رغم‌ أنه‌ اعتبر في عداد فقهاء كلا المذهبين‌ و أنه‌ ملتزم‌ بهما بشكل‌ من‌ الأشكال‌ (لنماذج‌ من‌ الفتاوى‌ المتبقية منه‌، ظ: القاضي عياض‌، 2/475؛ الونشريسي، 10/ 78؛ أيضاً ظ: الدهماني، 2/170). و خلال‌ ذلك، فإن‌ الموضوع‌ الوحيد المتبقي هو إن‌ المغرب‌ كان‌ يشهد في سنة جلوس‌ فقيه‌ حنفي على‌ مسند القضاء، و فقيه‌ مالكي في السنة الأخرى‌ على‌ ماقال‌ المقدسي (ص‌ 236-237). و من‌ خلال‌ وضع‌ هذه‌ الرواية إلى‌ جانب‌ هذه‌ الملاحظة و هي إن‌ زيادة اللّه‌ إبراهيم‌ ابن‌ الأغلب‌، كان‌ قد اختار أسداً و أبا محرز المالكي للقضاء بشكل‌ مشترك (ظ: السطور التالية)، يتعزز هذا التصور و هو إن‌ الميل‌ الحنفي لدى‌ أسد بن‌ الفرات‌ كان‌ هو الغالب‌ (أيضاً ظ: ابن‌‌الخوجة‌، 188).

ومن‌ حيث‌ المكانة الاجتماعية، فإن‌ عمق‌ معرفة أسد بالمذاهب‌ الفقهية و شهرته‌ كعالم‌ بارز، أديا إلى‌ أن‌ يحصل‌ على‌ مناصب‌ قضائية في جهاز حكم‌ بني الأغلب‌. ففي 204ه‍/ 819م‌، أو في 203ه‍ على‌ قول‌ آخر، اختار زيادة اللّه‌ إبراهيم‌ أسداً لتولي قضاء القيروان‌ بشكل‌ مشترك مع‌ أبي محرز الفقيه‌ المالكي، و قد بقي أسد في هذا المنصب‌ حتى‌ آخر عمره‌ (الخشني، 235؛ الدباغ‌، 2/ 19؛ ابن‌‌عذاري، 1/97؛ السراج‌ الأندلسي، 1(3)/752).

كانت‌ القيروان‌ في النصف‌ الثاني من‌ القرن‌ 2ه‍/ 8م‌، يسودها الاضطراب‌ السياسي، و الحروب‌ الداخلية و الخارجية. و قد خرج‌ عمران‌ بن‌ مجالد الربيعي و قريش‌ ابن‌ التونسي على‌ الأغالبة، وحدثت‌ بينهم‌ حروب‌ متوالية في 194ه‍/810م‌، حيث‌ انتصر الأغالبة في النهاية (ابن‌ الأثير، 6/235-236). و في هذه‌ الفترة كان‌ أسد الذي لم‌‌يكن‌ قد اختير بعد للقضاء، حاضراً في القيروان‌ باعتباره‌ فقيهاً ذا قيمة، إلى‌ درجة أن‌ عمران‌ بن‌ مجالد طلب‌ من‌ أسد بعد هزيمته‌ أمام‌ زيادة اللّه‌، أن‌ يقف‌ إلى‌ جانبه‌. و رغم‌ أن‌ أسداً لم‌‌يقبل‌ (ن‌.ص‌)، و لكننا نستطيع‌ من‌ خلال‌ هذا الطلب‌ أن‌ نتصور مكانته‌ الاجتماعية آنذاك. و في 211ه‍/826م‌ خرج‌ منصور الطنبدي (نسبة إلى‌ طنبدة في تونس‌) على‌ زيادة الله‌، و حاصره‌ في القصر القديم‌، و سيطر على‌ القيروان‌. و رغم‌ أن‌ زيادة اللّه‌ انتصـر في الحـرب‌ التي حدثت‌، إلا أن‌ أسداً كان‌ إلى‌ جانـب‌ زيادة الله‌ طيلة هذه‌ الفترة المضطربة على‌ عكس‌ منافسه‌ أبي‌محرز الذي كان‌ يخشى‌ منصوراً (ظ: المالكي، 2/185-186؛ الدباغ‌، 2/20-21).

و في 212ه‍، أدت‌ المشاكل‌ الخارجية للأغالبة إلى‌ أن‌ يعين‌ زيادة اللّه‌ أسداً أميراً للجيش‌ في معركة صقلية مع‌ احتفاظه‌ بمنصب‌ القضاء. و على‌ إثر المصادمات‌ بين‌ البطريق‌ قسطنطين‌ قائد جيش‌ الروم‌، و شخص‌ يدعى‌ فيمي، وكذلك عدم‌ الالتزام‌ بمفاد معاهدة الصلح‌ التي كانت‌ قد عقدت‌ بين‌ أهالي صقلية و زيادة اللّه‌ بشأن‌ الأسـرى‌ المسلمين‌، طلب‌ فيمي من‌ زيـادة اللّه‌ ــ في كتاب‌ بعثه‌ إليه‌ ــ المساعدة، و أرسل‌ زيادة اللّه‌ أسداً لمحاربة الروم‌ (ياقوت‌، 3/407؛ ابن‌ الأثير، 6/333-335؛ الدباغ‌، 2/21-22). و في ربيع‌ الأول‌ من‌ نفس‌ السنة، ركب‌ أسد سفينة في سوسة مع‌ جيش‌ جرار‌، و تحرك نحو صقلية. و بعد أن‌ اجتاز جيش‌ المسلمين‌ مدينة مازر وصل‌ إلى‌ مقابل‌ قوات‌ بلاطة التي كانت‌ قد تمردت‌ على‌ فيمي. و نشبت‌ هناك حرب‌ بينهما، و حطم‌ المسلمون‌ هذا السد، وتحركوا باتجاه‌ سرقوسة. و انضمت‌ إليهم‌ قوات‌ دعم‌ من‌ إفريقية والأندلس‌، و حاصروا في النهاية سرقوسة من‌ البحر و البر، وقضوا على‌ الكثير من‌ الأعداء. و بعد ذلك، بقي جيش‌ المسلمين‌ خلف‌ سور سرقوسة، و استمرت‌ هذه‌ الحالة حتى‌ حدثت‌ اختلالات‌ بين‌ صفوف‌ جيش‌ أسد، بالإضافة إلى‌ الوباء الشديد الذي انتشر بينهم‌، إلى‌ درجة أن‌ محمد بن‌ قادم‌ نفسه‌ تلميذ و رفيق‌ أسد، عزم‌ على‌ الخروج‌ من‌ الحرب‌ و العودة إلى‌ إفريقية، و لكن‌ أسداً منعه‌ بشدة من‌ ذلك باعتباره‌ أمير الجند، و ابتلي أسد بوباء شديد على‌ أعتاب‌ فتحه‌ لسرقوسة بشكل‌ كامل‌، و توفي. و رغم‌ أن‌ جثمانه‌ دفن‌ في بَلِرْم‌، فإن‌ زيادة اللّه‌ أعلن‌ في نفس‌ الوقت‌ في كتاب‌ بعثه‌ إلى‌ الخليفة المأمون‌، فتح‌ أسد بن‌ الفرات‌ لصقلية (ياقوت‌، ن‌.ص‌؛ ابن‌ الأثير، 6/333-336؛ الدباغ‌، 2/24-25؛ أبوالعرب‌، المحن‌، 435؛ ابن عبد المنعم، 366؛ ابن‌ خلكان‌، 3/182).

كان‌ أسد بن الفرات يعتبر من‌ حيث‌ المعتقد من‌ الأتباع‌ المتشددين‌ للسنة، وكان‌ في مسائل‌ مثل‌ رؤية الباري تعالى‌ في الآخرة متشدداً إلى‌ درجة أنه‌ ضرب‌ في أحد المجالس‌ سليمان‌ الفراء العراقي بسبب‌ إنكاره‌ لهذه‌ العقيدة (أبوالعرب‌، طبقات‌، 165؛ المالكي، 1/182). وكان‌ يقف‌ في الجبهة المعارضة‌ لبشر المريسي، و كان‌ بشر يذم‌ بشدة كتابه‌ التوحيد، و يدعي‌ ميله‌ إلى‌ الزندقة (ن‌.ص‌). وعلى‌ الرغم‌ من‌ أن‌ البعض‌ كان‌ ينسب‌ إليه‌ القول‌ بالخلق‌ في مسألة خلق‌ القرآن‌، فقد نقلت‌ عنه‌ روايات‌ ينكر فيه‌ بشدة خلق‌ القرآن‌، وكان‌ سحنون‌ يؤيد هذه‌ الروايات‌ (ظ: أبوالعرب‌، ن‌.م‌، 164-165؛ المالكي، ن‌.ص‌). و تجب‌ الإشارة هنا إلى‌ رسالة أسد‌بن‌ موسى‌ المحدث‌ و الفقيه‌ المصري إلى‌ أسد بن‌ الفرات‌، والتي أكد فيها على‌ وجوب‌ اتباع‌ السنة و الابتعاد عن‌ البدعة، ورغم‌ أننا لانعلم‌ شيئاً عن‌ مضمونها، إلا أنها تمثل‌ على‌ أية حال‌ رداً عنيفاً من‌ قبل‌ المدرسة الفكرية لأصحاب‌ الحديث‌ تجلى‌ في حديث‌ أسدبن‌موسى‌ (ظ: ابن‌‌ خير، 299؛ ايضاً ظ: ن‌.د، أسد‌بن‌‌موسى‌).

و مما يجدر ذكره‌ أن‌ ريتسيتانو تناول‌ بالتفصيل‌ الحديث‌ عن‌ حياة أسد ومكانته‌ الفقهية أيضاً، و دوره‌ في فتح‌ صقلية في مقالة بعنوان‌ «أسد بن‌ الفرات‌، فقيه‌ إفريقية و قاضيها» (ص 225-243). 

 

المصادر

ابن الأبار، محمد، الحلة السيراء، تق‍ : حسين‌ مؤنس‌، القاهرة، 1963م‌؛ ابن‌‌الأثير، الكامل؛ ابن‌ حزم‌، علي، «رسالة في فضل‌ الأندلس‌»، فضائل‌ الأندلس‌ وأهلها، تق‍ : صلاح‌ الدين‌ المنجد، بيروت‌، 1387ه‍/1967م‌؛ ابن‌ الخطيب‌، محمد، الإحاطة في أخبار غرناطة، تق‍ : محمد عبداللّه‌ عنان‌، القاهرة، 1393ه‍/1973م‌؛ ابن‌‌خلكان‌، وفيات‌؛ ابن‌ الخوجة‌، محمد، صفحات‌ من‌ تاريخ‌ تونس‌، تق‍ : حمادي الساحلي و الجيلاني بن‌ الحاج‌ يحيى‌، بيروت‌، 1986م‌؛ ابن‌ خير الإشبيلي، محمد، فهرسة، تق‍ : فرنسشكه‌ قداره، بغداد، 1963م‌؛ ابن‌ رشد، محمد، المقدمات‌ الممهدات‌، القاهرة، 1325ه‍؛ ابن عبد المنعم الحميري،محمد، الروض المعطار، تق‍ : إحسان عباس، بيروت، 1980م؛ ابن‌ عذاري، أحمد، البيان‌ المغرب‌، تق‍ : كولن‌ و ليفى‌ پروفنسال‌، ليدن‌، 1948-1951م‌؛ ابن‌ القاضي المكناسي، أحمد، جذوة الاقتباس‌، الرباط، 1973م‌؛ ابن‌‌ماكولا، علي، الإكمال‌، تق‍ : عبدالرحمان‌ المعلمي اليماني، حيـدرآباد الدكن‌، 1384ه‍/1965م؛ أبوإسحـاق‌ الشيرازي، إبراهيم‌، طبقات‌ الفقهـاء، تق‍ : إحسان‌ عباس‌، بيروت‌، 1401ه‍/1981م‌؛ أبوزهرة، محمد، أبوحنيفة، القاهرة، 1955م‌؛ م‌.ن‌، مالك، القاهرة، 1952م‌؛ أبوالعرب‌ التميمي، محمد، طبقات‌ علماء إفريقية وتونس‌، تق‍ : علي الشابي و نعيم‌ حسن‌ اليافي، تونس‌، 1985م‌؛ م‌.ن‌، المحن‌، تق‍ : يحيى‌ وهيب‌ الجبوري، بيروت‌، 1403ه‍/1983م‌؛ الخشني، محمد، طبقات‌ علماء إفريقية، تق‍ : محمد بن‌ شنب‌، باريس‌، 1915م‌؛ الدباغ‌، عبدالرحمان‌، معالم‌ الإيمان‌، تق‍ : محمد الأحمدي أبوالنور ومحمد ماضور، القاهرة/ تونس‌، 1974م‌؛ الدهماني، حسين‌، مقدمة وحاشية التفريع‌ لابن‌ الجلاب،‌ بيروت‌، 1408ه‍/1987م‌؛ الذهبي، محمد، سير أعلام‌ النبلاء، تق‍ : شعيب‌ الأرنؤوط ومحمد نعيم‌ العرقسوسي، بيروت‌، 1406ه‍/1986م؛ السرّاج الأندلسي، محمد، الحلل‌ السندسية، تق‍ : محمد حبيب‌ هيلة، تونس‌، 1970م‌؛ القاضي عياض‌، ترتيب‌ المدارك، تق‍ أحمـد بكير محمود، طرابـلس‌ / بيروت‌، 1387ه‍/1967م؛ المالكي، عبداللّه‌، رياض‌ النفوس‌، تق‍ : حسين‌ مؤنس‌، القاهرة، 1951م‌؛ المقدسي، محمـد، أحسن‌ التقاسيم‌، تق‍ : دي‌خويه‌، ليدن‌، 1906م‌؛ المقري، أحمد، نفح‌ الطيـب‌، تق‍ : إحسان‌ عباس‌، القاهرة، 1370ه‍؛ الونشريسي، أحمد، المعيار المعرب‌، بيروت‌، 1401ه‍/1981م؛ ياقوت‌، البلدان‌؛ و أيضاً:

 

Rizzitano, U., «Asad ibn al-Furāt, faqīh e qāḍī d’Ifrīqiah», RSO, 1961, vol. XXXVI.

فرامرز حاج‌ منوچهري/خ.

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: