أبو البرکات
cgietitle
1442/12/20 ۱۰:۲۱:۲۹
https://cgie.org.ir/ar/article/234647
1446/9/12 ۰۸:۴۲:۲۶
نشرت
4
ویقوم أساس فکرة أبي البرکات علی أنه لایکفي معلم واحد (= العقل الفعال علی حد تعبیر المشائین) لإرشاد وتعلیم وتفعیل النفوس الإنسانیة التي تختلف فیما بینها اختلافاً ماهویاً وجوهریاً، بل یجب القبول بوجود عدة معلمین أو عدة علل قریبة أو عدة عقول. ویبدو أن هذا الفیلسوف و خلافاً للمشائین یقسم وظائف العقل الفعال – أي إرشاد وتعلیم و هدایة النفوس – بین عدد من العقول، أو الملائکة. فالعقول، أو الملائکة التي هي بمثابة المعلم و المرشد الروحي للنفوس، تقوم بإرشاد تلک النفوس و تعلّمها المعرفة و تمنحها القوة. ویؤکد أبوالبرکات في معرض تأییده لهذه النقطة أن الحکماء القدامی الذین وصلوا إلی نظام المشاهدة و معرفة العالم الربوبي قد أشاروا إلی هذا المعنی أیضاً، وعبّروا عن الملک الحارس و الهادي و المدبر لکل نفس أو مجموعة من النفوس الإنسانیة بـ «الطباع التامة»، وأطلقوا أیضاً علی حاملي الوحي الإلهي اسم الملائکة (2/391).
ویبدو أن أبا البرکات متأثر بأفکار هرمس فیما یتعلق بـ «الطباع التامة»، أي الملک الحارس و الهادي و المدبر للنفس، لأن هذه الفکرة من تراث المذهب الهرمسي (نصر، 19-26؛ کُربن، 241)، وقد طُرحت هذه الفکرة بعد أبي البرکات بسنوات في کتابات شیخ الإشراق شهابالدین السهوردي بشکل أدق و أکثر صراحة، حیث تحدث عن «الطباع التامة»، أي «الذات الملکوتیة» للإنسان، والتي هي عین رب النوع الإنساني (السهروردي، 464).
3. لایعتقد أبوالبرکات و علی العکس من المشائین بحصر عدد العقول بعشرة، وعبّر عن العقول بالملائکة والأرواح علی ضوء المصطلحاتالدینیة؛ وأن عالم الوجود من وجهة نظر هذا الفیلسوف حافل بالملائکة المدبرین و الحافظین للأنواع. و هذه الملائکة بعدد الکواکب المرئیة واللامرئیة والأفلاک المعروفة و غیر المعروفة، وحتی من الممکن أن یصل عددها إلی عدد أنواع الموجودات المحسوسة (3/167). وعلی هذا الأساس فإن لکل من الأنواع المحسوسة – فلکیة أو عنصریة – ملکاً، أو رباً للنوع یحفظ صورة ذلک النوع في المادة، ویستبقي النوع بواسطة الأفراد، ولهذا السبب یسمی ذلک الملک بحافظ الصور (ن.ص).
وکما یلاحظ فمن جانب نری أبا البرکات، و خلافاً للمشائین الذین یسمون العقل الفعال «واهب الصور»، یسمي الملائکة المدبرة للأنواع «حافظة الصور»، و هو بهذا یرید أن ینکر فاعلیة الملائکة، أو العقول في عملیة الصدور و الخلق. و بعبارة أخری إنه یعتقد أن الملائکة تتولی حفظ الأنواع وتدبیرها و تربیتها فحسب، إلا أن وجود الأنواع یعتمد علی القدرة و الفعالیة الإلهیة المباشرتین، في حین أن العقل الفعال من وجهة نظر المشائین واهب للصور فضلاً عن تدبیر النفوس و تعلیمها، و بهذا العمل یلبسون موجودات العلام المسحسوسة لباس الوجود.
ومن جانب آخر یجب القول إن أبا البرکات یسبق شیخ الإشراق في التعبیر عن العقول بالملائکة، أو أرباب الأنواع، و الاعتقاد بکثرة عددها، والتحدث عن الطباع التامة، أي الملک الخاص بالنوع الإنساني، لأن آراء من هذا القبیل قد طُرحت فیما بعد بشکل أوسع وأعمق في آثار السهروردي.
4. یعتقد أبو البرکات أن النفس جوهر غیر مادي ذاتاً، وعندما تصل إلی أعلی مراتب الکمال تحقق حیاة إلی جوار الملائکة والروحانیین، فتنال مشاهدة الأنوار الإلهیة ومعرفة حقائق الوجود وتتنعم بها (3/214-215). ویتحقق کمال النفس عند اتصالها بعالم الملائکة والعالم الربوبي، العالم الذي یُعدّ دائرة الجواهر المفارقة المدرکة. وتتمیز هذه الجواهر عن بعضها حسب درجة الکمال والنقص، وتختلف عن النفوس في عدم حاجتها إلی المادة. ولایختلف الأمر کثیراً في أن نسمي هذه الجواهر المفارقة عقولاً أو ملائکة، أو أرواحاً بل المهم أن نعلم بأنها طبائع غیر محسوسة و ذوات لاتقبل الحلول والانطباع في الجسم والهیئات الجسمیة. فالعالم الربوبي دائرة المعقولات المحضة حقائق الموجودات المحسوسة، ففي هذا العالم – مثلاً – نار لاتحرق، أو أضداد لایفسد بعضها البعض (3/92). وبهذا یجر أبوالبرکات حدیثه إلی مُثُل أفلاطون ویعبر عن المُثُل بالصور العلمیة للأشیاء في علم الله (3/93).
5. یعتقد المشاؤون أن الله عالم بالأمور الجزئیة، إلا أن علمه علی نحو کلي، أي أنه یعلم بالأمور الجزئیة من حیث اندراجها تحت الکلیات، لأن الأشیاء الجزئیة متغیرة، والعلم یتغیر تبعاً للمعلوم أیضاً، وتغییر العلم یستلزم حدوث تغیّر في العالم، في حین أن البارئ تعالی منزّه عن کل تغییر و تبدیل. فعلم الله لایقبل الزمان ولیس مستفاداً من الموجودات ولایلیق أن یطرأ علی علمه تغییر وتبدیل. وأورد ابن سینا في هذا المجال: واجب الوجود إنما یعقل کل شيء علی نحو کلي، ومع ذلک فلایعزب عنه شيء شخصي (ظ: النجاة، 504؛ أبوالبرکات، 3/71). ویقول ابن سینا موضحاً هذا الموضوع: فلأن الله تعالی عَقَل ذاته و عَقَلَ أنه مبدأ کل موجود، عَقَلَ أوائل الموجودات عنه ومایتولد عنها. ولاشيء من الأشیاء یوجد، إلا وقد صار من جهظ مایکون واجباً بسببه، فتکون هذه الأسباب تتأدی بمصادماتها، إلی أن توجد عنها الأمور الجزئیة. فالأول (الله) یعلم الأسباب و مطابقاتها، فیعلم ضرورة ماتتأدی إلیه، وما بینها من الأزمنة، ومالها من العودات، لأنه لیس یمکن أن یعلم تلک، ولایعلم هذا، فیکون مدرکاً للأمور الجزئیة من حیث هي کلیة، أعني من حیث لها صفات (ابن سینا، ن.م، 595).
ویعتقد أبوالبرکات أن علم الله یتعلق بالأمور الجزئیة أیضاً من حیث هي جزئیة ومتغیرة، وهذا الاعتقاد لایؤدي إلی حدوث تغیر و نقص في ذات البارئ تعالی، ولایوجب الحاجة إلی الجسم و الأمور الجسمانیة المنزّه عنها الله، لأن العلم لیس سوی إضافة، وتغیر الإضافة لایستلزم تغیراً في ذات العالم، کما أن نطاق علم الله بأي شيء غیرمحدود، وقدرته في إیجاد ذلک الشيء لاحدود لها أیضاً (3/88). ولتوضیح ذلک طرح أبو البرکات آراءه الخاصة علی صعید إدراک الأمور الجزئیة؛ تلک الآراء التي تقول إن الإدراک الجزئي لایحتاج إلی الأمور الجسمانیة والمادیة. وطبقاً لهذه الآراء یظهر عدم صحة رأي المشائین القائل بأن الإدراک الحسي و الخیالي – المتعلق بالجزئیات – یحتاج إلی المادة والعلائق المادیة فوأن مدرک الجزئیات یجب أن یکون بالضرورة جسماً و جسمانیاً (3/71)، بل علی العکس من الإنسان، فمدرک الصور الخالیة – فضلاً عن الجزئیات المحسوسة – لایمکن أن یکون جسماً، أوقوة جسمانیة (3/84)، علی هذا الأساس لماذا ننفي العلم بالأمور الجزئیة عن الله و ملائکته (3/88)، لأنه سیتمخض عن هذا الاعتقاد أن الله جب أن یکون أقل کمالاً من النفس الإنسانیة التي تستطیع إدراک الکلیات والجزئیات معاً.
والنقطة الأخری التي تجب الإشارة إلیها هي أن البارئ تعالی ذو علم بالأمور الجزئیة، لکن لیس بالجزئیات التي لانهایة لها في آن واحد، لأن هذا المفهوم متناقض مع نفسه. و رغم أن الله لیس عالماً بالجزئیات التي لانهایة لها في آن واحد، إلا أن هذا لایمکن أن یکون دلیلاً علی عجزه أو نقص في علمه، لأن المانع من جهة المعلوم، لامن جهة العالم، أي وجود الجزئیات اللامتناهیة التي تنتهي إلی التسلسل و التي لاتستلزم نقصاً في العالم أبداً (3/187؛ إبراهیمي، 463). وضمن إطار هذه المسألة – أي تعلق علم الله بالجزئیات – یری أبوالبرکات أن إرادة الله متجددة ومتصرمة أیضاً.
6. یعتقد أبوالبرکات أن أفعال الله مرتبطة بالإرادات المتجددة غیر المتناهیة فأي أن الله یجب أن یجدد الإرادة لکل فعل من الأفعال الزمانیة، ولاینتهي هذا العمل أبداً. فهو یری أن الأفعال الإلهیة تنقسم إلی قدیم ومحدث، والإرادیة إلی إرادة دائمة وإرادات متجددة (3/175)، وینسب حرکة الأفلاک واستمرار حرکاتها إلی الإرادة الإلهیة الدائمة، غیر أنه یعتقد بأن حوادث عالم الکون و الفساد معلولة للإرادات الإلهیة المتجددة. وعلی هذا الأساس فهو یعتقد بتجدد الإرادة الالهیة، ویعدّها منشأ الأمور المتجددة (ن.ص). ویعتقد هذا الفیلسوف أن خلقة الموجودات تعتمد علی تعاقب و توالي الإرادة الإلهیة، سواء کانت أزلیة أو زمانیة، حیث إنّ «سبب الحرکات الإرادیة الإرادة، و سبب استمرارها استمرار الإرادة، وسبب انقطاعها انقطعها، وسیبب عودها عودها. فالإرادة بسبب الحرکة السابقة مثلاً من أ إلی ب، ثم المعرفة بالوصول إلیب بسبب الإرادة للحرکة من ب إلی ج، و تلک الإرادة الثانیة المتسببة عن الحرکة الأولی تکون سبباً لحصول الحرکة الثانیة من ب إلی ج، والمعرفة بالوصول إلی ج الحاصل من الإرادة الثانیة تکون سبباً للحرکة من ج إلی د، وکذلک علی الاتصال» (3/175-176؛ إبراهیمي، 461).وقد دفع هذا الکلام بشیخ الإشراق إلی فتح فصل بعنوان «في إبطال قاعدة لأبي البرکات …» في کتاب «المشارع و المطارحات» و انتقاد رأیه بشدة. یقول الشیخ: «أثبت أبوالبرکات علی الله إرادة ثابتة أزلیة وإرادات متجددة لاتتناهی، وخالف في هذا البرهان کل من له في النظر أقل رتبة، وخالف مذهب الیهودیة أیضاً الذي کان یراه و الإسلامیة التي انتقل إلیها» (السهروردي، 435-436).
7. عبّر أبوالبرکات في الفصل 22من قسم الإلهیات عن البارئ تعالی بنور الأنوار، وطابق مراتب الوجود مع مراتب الأنوار فهو یری أن النور بقسم إلی معقول و محسوس، أو خفي وظاهر. فالله تعالی المنبع الأزلي لکافة الأنوار، و سائر الوجود بمنزلة أنوار تصدر عن نور الأنوار بنسب مختلفة (3/126)، فالحق تعالی نور کافة الأنوار و الظاهر الخفي. أما ظهوره فبذاته و صفاته ووجوده الواجب بذاته، وأما خفاؤه فعند من ضعف بصره الذاتي عن إدراکه کضعف عین الخفاش عند ضوء النهار یخفی علیها لکونه أظهر، فیعجزها ویبهرها (3/128). ویبدو من هذا أن هذه التعبیرات شبیهة إلی حد ما بتلکل التي وردت قبل أبي البرکات في کتاب أثولوجیا، ومشکاة الأنوار للغزالي، ومن بعده في کتابات شیخ الإشراق.
ویعتقد أبو البرکات أن إثبات وجود الله عن طریق الحرکة – والذي یؤکد علیه المشاؤون – لیس أسلوباً صحیحاً، أو طریقاً خاصاً لمعرفته (3/130). فمعرفة وجود الله مقترنة بالعلم بالوجود حیث لنا منها إدراک أولي، ثم إنّ الحکمة المتجلیة في نظام الوجود تدل علی وجود الخالق، فضلاً عن وجود ارتباط مباشر بین الإنسان و الحق تعالی في بعض الأحیان. فذات واجب الوجود غیرمعروفة لأننا عاجزون عن إدراکه من جهة، ولأن الله حقیقة واحدة وبسیطة لایوجد فیها ترکیب، أي لیس له ذاتیات کي یمکن عن هذا الطریق معرفة ذاته (3/123). وإن قیل إن له أوصافاً ذاتیة کالعلم والقدرة والحکمة، فلیس معناها أنها أجزاء ذاته، بل إنها له بذاته و من ذاته لابغیره ولامن غیره کمساواة الزوایا الثلاث منکل مثلث لزاویتین قائمتنی (ن.ص).
8. والنفس الإنسانیة من وجهة نظر أبي البرکات ذات ارتباط وثیق بموجودات العالم العلوي، فکماأن للعین (= البصر) نوراً تبصر به الأشیاء، کذلک فإن للبصیرة – التي هي حقیقة الإنسان والنفس الإنسانیة الناطقة – نوراً تشاهد به الحقائق (3/166). ویتفق هذا الفیلسوف مع ابن سینا (الإشارات …، 2/343-347، الشفاء، الطبیعیات، النفس، 225-226) في أنّ أساس علم النفس هو معرفة الإنسان بنفسه بدون واسطة. وهذه المعرفة تتقدم علی کل معرفة، لأن الانسان یشعر بنفسه ویعي ذاته قبل أن یعي الأشیاء الأخری وغیره، وهذا الوعي أمر وجداني ویقیني وبدیهي (2/306). والوعي المباشر الذي یملکه الإنسان عن نفسه، یدل علی أن النفس الموجودة في کل شخص حقیقة واحدة (2/383)، وشعور الإنسان بوحدته، دلیل علی عدم صحة القول بوجود قوی نفسانیة مختلفة و مستقلة. ولهذا فإن أبا البرکات یرفض رأي بعض المشائین القائلین – علی حد زعمه – بوجود تمایز وجداني بین القوتین النظریة و العملیة، وأن النفس هي مجموع هاتین القوتین، وینقد رأیهم في العقل و تقسیمه إلی هیولاني وبالملکة و بالفعل والمکتسب، ویعتقد أن النفس حقیقة واحدة غیر متقسمة وأن مدرک المحسوسات في الإنسان هو عین مدرکالمعقولات، أي النفس الناطقة، لاقوة من القوی البدنیة (ظ: 3/149-150).
9. ویعتقد أبوالبرکات أن إدراک الزمان وإدراک الوجود وإدراک الذات مقدم علی الإدراکات التي یمکن أن تکون للإنسان عن الأشیاء الأخری، وأن مفاهیم الوجود و الزمان مرتبطة ببعضها (3/39). لهذا فإن الزمان – وعلی العکس من رأي المشائین – لیس مقدار الحرکة، بل مقدار الوجود، وأنه من صفات وجود الخالق، کما هو من صفات وجود المخلوق (3/40-42).
فأولئک الذین یرون أن الزمان، مقدار الحرکة، یعتقدون أنه لما کان الخالق لایتحرک، فلیس في زمان، وقد أوضحنا أن وجود کل موجود في مدة هي زمان ، ولایُتصور وجودٌ لافي زمانٍ، لأن الزمان بمعنی استمرار الوجود وامتداده، والذین جرّدوا وجود خالقهم عن الزمان قالوا بأنه موجود في الدهر والسرمد، بل وجوده هو الدهر و السرمد، فغیروا لفظ الزمان و ماتغیر معناه. ولما قیل ماالدهر و السرمد؟ قالوا إنه البقاء الدائم الذي لیس معه حرکة. والدوام من صفات المدة الزمان، فغیروا الاسم، والمعنی المعقول واحد. وبعبارة أخری إن الزمان یعني استمرار و بقاء الوجود، فإذا لم یکن ابتداء و انتهاء لاستمرار و بقاء وجود شيء ما، أو لانستطیع أن نجد له ابتداء انتهاءف نعبّر عنه حینئذ بالأزلي والأبدي، أو الأزل والأبد (3/41).
فالدهر والسرمد هما الزمان نفسه نسبة إلی الثابتات و الأزلیات، والزمان یستوعب کل وجود سواء کان متغیراً، أم ساکناً، خالقاً، أم مخلوقاً. فالزمان لایتحقق في الذهن علی أساس بطء وسرعة، أو اختلاف الحرکات، بل بما أنه مقدار الوجود، فهو یرسم في الذهن علی أساس دیمومة، أو عدم دیمومة، وطول أو قصر وجود الأشیاء. فالزمان والوجود مرتبطان ببعضهما إلی درجة أن القول بحدوث الزمان یعني القول بحدوث الوجود. فکیف یمکن القول بعدم وجود الزمان قبل حدوث العالم؟ في حین أن الزمان لایرتفع إلابارتفاع الوجود، والوجود لایعدم کما لایوجد؛ کما لایکون للمقدار الجسماني تجرید عن الجسم المتقدر به، فالزمان لایکون له وجود مجرد و هویة قائمة بنفسها. ولیس المقصود أن نقول لاوجود للزمان، لأن وجوده قد بان أنه أعرف من وجود غیره مما یوجد معه ویتعلق به، کما أن وجود الزمان مقدم عقلیاً علی کل شيء سواء قبل التفکر والتأمل – و معرفتنا به ناقصة – أو بعد التعقل والتدبر، حیث تکمل معرفتنا به (3/40). وقد دفعت النتیجة المنطقیة لهذه الفکرة أبا البرکات إلی أن یرفض الوجه الآخر للزمان – أي الدهر و السرمد – بالشکل الذي یُطرح في فلسفة المشائین، ویعتقد أنهما مراتب الوجود، وأن قضیة الزمان أکثر ارتباطاً بالإلهیات و مباحث مابعد الطبیعة منها بالطبیعیات (ظ: 3/2، 35 و مابعدها).
10. یعتقد أبوالبرکات و علی النقیض من المشائین الذین یعتقدون أن الجسم مرکب من جوهرین هما الهیولی والصورة، أن الهیولی المشترکة بین الأجسام هي نفس معنی الجسمیة، وعلی هذا الأساس یُعد الجسم المطلق هو الهیولی الأولی لکافة الأجسام، وحقیقة کل جسم لیست سوی نفس المقدار القائم بذاته، أو «الامتداد الاتصالي». کما یری أن الهیولی بالمعنی الذي یطرحه المشاؤون لایجدها الحس، ولاینتهي إلیها التحلیل، ولاتقول بها حجة عقلیة ولادلیل برهاني (3/200).
ویبرهن الفلاسفة المشاؤون علی وجود الهیولی عن طریق برهان الاتصال والانفصال. فهم یعتقدون أن الجسم یقبل الاتصال والانفصال، والاتصال بماهو اتصال لیس بانفصال، لهذا یجب وجود شيء في الجسم یقبل هذین الاثنین علی سبیل التعاقب والتوارد، ألا وهو الهیولی التي لیست متصلة ولامنفصلة بحد ذاتها. ویری أبوالبرکات أن هذا الکلام غیر صحیح لأنه یجب معرفة ماهو المقصود بالقول القائل إن الانفصال یعدمالاتصال الموجود في الجسم؟ فإذا کان یراد بالاتصال البعد والامتداد الکائن في الجسم – أي نوع من الاتصال المبهم غیر المتعیّن – فهو لایبطل بالانفصال بل یتکثر. أي أن الانفصال یجزئ الجسم إلی جزئین کل واحد منهما فیه معنی الاتصال. فالانفصال لایعدم الاتصال الحقیقي کي یثبت أن الهیولی مشترکة بینهما، بل إنه یکثّر الجسم، والتکثیر لیس عدماً (3/202). وعدا الاتصال الحقیقي للجسم، هناک اتصال إضافي وعرضي آخر والذي هو الاتصال بالفعل بین الأجزاء الموجدة في الجسم، ویقوم الانفصال بإیطال ذلک الاتصال الإضافي. وعلی هذا الأساس تعدّ الهیولی عین الصورة الجسمیة التي هي مجرد امتداد و بعد قابل للقیاس بغض النظر عن أي صفة أخری (EI2).
والحقیقة الجسمیة لیست سوی المقدار المطلق، وإذا تطرقنا إلی الهیولی الأولی فإنا نریدبها المعنی المشترک بین الأجسام، أي «الجسمیة» من جهة أنه قابل لصور الکائنات (= صور نوعیة») (أبوالبرکات، 2/14). بعبارة أخری الجسم المطلق هو الهیولی الأولی التي یصل التحلیل الذهني إلیها بعد ترک کافة الأوصاف، والعنصر المشترک بین الأجسام عند تبدل الصور و الأعراض هو الجسم المطلق، وتطرأ صور الکائنات (= الصور النوعیة) علی الجسم المطلق، وعلی هذا الأساس نعتبر الجسم المطلق الهیولی الأولی (م.ن، 3/196، 203، أیضاً ظ: 3/195-209).
11. یعتقد أبو البرکات – خلافاً للمشائین – بوجود الخلاء، وأن الفضاء غیر متناه و لیس بإمکان المرء أن یتصور له حداً ونهایة (2/48-69). وعلی صعید الحرکة الفسریة للأجسام، یعتقد أن الجسم المتحرک یستفید من المحرک قوة باسم «المیل»، وهذا المیل هو الذي یؤدي إلی الحرکةالقسریة (2/113)، کما أن هذا المیل یوفّر القوة اللازمة لاستمرار حرکة الجسم، ثم یُستهلک بشکل تدریجي في مجابهة المقاومة حتی ینتهي آخر المطاف و تنتهي الحرکة. والمیل القسري هو النقطة التي تقابل المیل الطبیعي. وحول سرعة حرکة الأجسام في حالة السقوط، فإن هذا المیل هو الذي یعمل علی تباطؤ سقوط الأجسام أو حرکتها باتجاه حیّزها الطبیعي – والتي تکون عن میل طبیعي – وکلما ضعف المیل القسري بالتدریج، ازدادت سرعة السقوط. فالسهم مثلاً إنما ینطلق بفعل القوة التي یستفیدها المتحرک من المحرک، وسیظل مستمراً في حرکته مادامت تلک القوة (المیل القسري) باقیة فیه. وکلّما قلّت هذه القوة (المیل القسري)، ازداد المیل الطبیعي وزادت سرعة السقوط، حتی تنتهي القوة المستفادة من المحرک، و یعود السهم باتجاه میله الطبیعي وبطرف حیزه الطبیعي ویسقط (2/112).
وذکر پینس أن أساس هذه النظریة یقوم علی نفس تلک النقاط التي طرحها یوحناالنحوي (المفکر المسیحي في القرن 1هـ/ 7م) احتجاجاً علی کلام أرسطو حول حرکة القذائف (= نظریة الحرکة القذفیة) والتي أکملت علی ید ابن سینا فیما بعد. ویمکن أن نستنبط من هذه النظریة بشکل حتمی قانوناً رئیساً فيالدینامیکا الجدیدة یقول بأن القوة الثانبتة تعمل علی إیجاد حرکة تزداد سرعتها باستمرار (ظ: EI2).
تُجابّه آراء أبي البرکات الفسفیة وانتقاداته للفلسفة المشائیة – لاسیما ابن سینا – باعتراض بعض المفکرین الإسلامیین دائماً، حتی إن عمر الخیام یری أن مؤاخذات أبي البرکات علی ابن سینا غیرقائمة علی أساس، کما قال في الحدیث الذي دار بینه و بین علاء الدولة فرامرز بن علي و هو من أعقاب علاءالدولة کاکویه: أبو لابرکات لیست له رتبة الذدراک لکلام أبيعلي، فکیف یکون له رتبة الاعتراض علیه (البیهقي، 110-111). کما وصف شیخ الإشراق کلامه بـ «الهذیانات القبیحة»، وعدّ أفکاره «سببانطماس الحکمة» (السهروردي، 435-438، 468). ورغم هذا نجد هناک أفکاراً متشابهة لدی السهروردي و أبي البرکات لایمکن تجاهلها، ولابدّ من اعتبارها دلیلاً علی تأثیر أبي البرکات في السهروردي، أو حملها علی التوارد، فضلاً عن وجود احتمال بتأثر الفیلسوفین بمصدر مشترک. وأهم هذه امشترکات التي هي بحاجة إلی دراسة: 1. عدم ترکیب الجسم من هیولی وصورة؛ 2. عدم تحدید عدد العقول بعشرة؛ 3. استخدام مفردات جدیدة و دراسة مراتب الأنوار و تطبیقها مع مراتب الموجدات و التعبیر عن الله بنور الأنوار؛ 4. الاعتقاد بـ «الطباع التامة» بصفتها هادیاً و مربیاً للنفوس الإنسانیة.
وفي إزاء هذه المجموعة، هناک مجموعة أخری من المفکرین الإسلامیین أثنت علی أبي البرکات وتأثرت بأفکاره، مما یعکس أهمیة أفکاره النقدیة. ویعدّ علاءالدولة فرامرز بن علي مؤلف کتاب بهجة التوحید من بین المدافعین عن تلک الأفکار، و کان رجلاً فاضلاً محباً للفلسفة و من أهل الحکمة (البیهقي، ن.ص). وقد انبری لدفاع عن أبي البرکات ورفض وجهات نظر الخیام في حواره مع الأخیر، کما تحدث معه بلهجة تتمّ عن العتاب (ن.ص).
وحظیت أفکار أبي البرکات باهتمام متکلمي الأشعریة والمدافعین عن السنة و الحدیث، حتی قال الشهرزوري إن أکثر الشُبّه التي أوردها فخرالدین الرازي علی الفلاسفة المشائین، هي لأبي البرکات و من تصرفات ذهنه (2/148).
وقد أثنی ابن تیمیة في کتاب منهاج السنة النبویة (1/96) علی أبي البرکات لعدم اتباعه للفلاسفة، وعدّ آراءه في مجال علم الله بالجزئیات أقرب إلی عقائد أهل السنة والحدیث من باقي المفکرین المسلمین. کما أشار مراراً إلی أبي البرکات في کتاب الرد علی المنطقیین (ص 125، 231-232، 336، 444، 525) و اعتبره في مستوی فلاسفة کالسهروردي، واستند إلی أقواله في مخالفة الفلسفة المشائیة.
آستان قدس، الفهرست؛ إبراهیمي دیناني، غلام حسین، شعاع أندیشه و شهوددر فلسفۀ سهروردي، طهران، 1366ش؛ ابن أبي أصیبعة، أحمد، عیون الأنباء، تقـ: أغوست مولر، 1299 هـ/ 1882م؛ ابن تیمیة، أحمد، الرد علی المنطقیین، تقـ: شرفالدین الکتبي، بومباي، 1949م؛ م.ن، منهاج السنة النبویة، بیروت، دارالفکر؛ ابن خلکان، وفیات؛ ابن سینا، الإشارات و التنبیهات، تقـ: سلیمان دنیا، القاهرة، 1971م؛ م.ن، الشفاء، تقـ: جورج قنواتي و سعید زاید، القاهرة، 1975م؛ م.ن، النجاة، تقـ: محمدتقي دانشپژوه، طهران، 1364ش؛ أبوالبرکات، هبة الله، المعتبر في الحکمة، تقـ: زین العابدین الموسوي، حیدرآبادالدکن، 1357-1358هـ؛ البغدادي، هدیة؛ البیهقي، علي، تتمة صوان الحکمة، تقـ: محمدشفیع، لاهور، 1351هـ؛ الذهبي، محمد، سیر أعلام النبلاء، تقـ: شعیب الأرنؤوط ومحمد نعیم العرقسوسي، بیروت، 1405هـ؛ السهروردي، یحیی، «المشارع و المطارحات»، مجموعة مصنفات، تقـ:هنري کربن، طهران، 1355ش؛ الشهرزوري، محمد، نزهة الأرواح، تقـ: خورشید أحمد، حیدرآبادالدکن، 1976م؛ صفا، ذبیحالله، تاریخ علوم عقلي در تمدن إسلامي طهران، 1356ش؛ الصفدي، خلیل، نکت الهمیان، تقـ: أحمد زکي بک، القاهرة، 1329هـ/ 1911م؛ فخرالدین الرازي، محمد، المباحث المشرقیة، قم، 1411هـ؛ فهرس مخطوطات الطب الذسلامي في مکتبات ترکیا، إستانبول 1404هـ/1984م؛ القفطي، علي، إخبار العلماء بأخبار الحکماء، تقـ: محمدأمین الخانجيف القاهرة، 1326هـ؛ کربن، هنري، تاریخ فلسفۀ إسلامي، تجـ: أسدالله مبشري، طهران، 1352ش؛ کوپریلي، المخطوطات؛ المرکزیة، المخطوطات؛ نصر، حسین، هرمس ونوشتههاي هرمسي در جهان إسلامي، طهران، 1341ش؛ یاقوت، الأدباء؛ وأیضاً:
EI2; GAL; GAL, S; Judaica; Sarton, G., Introduction to the History of Science Baltimore, 1927.
صمد موحد/ ت.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode