ابن الفارض
cgietitle
1442/11/29 ۱۸:۳۰:۲۲
https://cgie.org.ir/ar/article/234173
1446/10/9 ۱۰:۳۳:۰۹
نشرت
3
اِبْنُ الفارِض، أبو حفص (أبو القاسم) شرف الدين عمر بن علي ابن مرشد بن علي (576-632هـ/1181-1235م)، أشعر المتصوفین في الأدب العربي.
ینتسب ابن الفارض، كما یقول سبطُه الشیخ علي، إلی قبیلة بني سعد – قبیلة حلیمة السعدیة مرضعة الرسول(ص) – استناداً إلی رؤیا رآها (1/7). وتنتسب أسرته إلی مدینة حماة بالشام. هاجر أبوه إلی مصر وكانت آنذاك أهم مراكز الحصارة الإسلامیة، واشتهر بـ «الفارض» لأنه كان یثبت الفروض للنساء علی الرجال في محاكم القضاء (ابن خلكان، 3/456؛ ابن العماد، 5/149).
ویقول الشیخ علي، جامع دیوان ابن الفارض، في دیباجة الدیوان نقلاً عن المنذري: «سألت ابن الفارض عن تاریخ مولده، فقال بالقاهرة: الرابع من ذي القعدة 577، وكذلك سمعته من ابن خلكان» (1/16). ویبدو أن الشیخ علیاً قد أخطأ فیما ذهب إلیه، حیث لاتؤید كلامه لاتكملة المنذري، ولا وفیات ابن خلكان، وقد أرّخ كلاهما ولادته في 4 ذي القعدة 576 (المنذري، 3/389؛ ابن خلكان، 3/455)، وهو ما قال به أیضاً باقي المؤرخین (ظ: الذهبي، تاریخ…، 93؛ ابن تغري بردي، 6/288).
قرأ ابن الفارض مقدمات العلوم علی أبیه، وكان أبوه عالماً زاهداً، وكان لبعض الوقت خلیفة الحكم للملك العزیز الأیوبي بالقاهرة، وكان یأخذ معه ولده أحیاناً إلی مجالس الحكم. ودفعه زهده وورعه إلی رفض دعوة السلطان له بتولي منصب قاضي القضاة، واعتزل آخر الأمر كافة الأعمال الحكومیة وانصرف إلی إرشاد الناس بالجامع الأزهر (الشیخ علي، 1/5).
سمع ابن الفارض بالقاهرة من بهاء الدین القاسم ابن عساكر (المنذري، ن.ص؛ الذهبي، سیر…، 22/368) واختار المذهب الشافعي (المنذري، ن.ص؛ السیوطي، 1/581). ثم نزع إلی التصوف، وأخذ یخرج إلی وادي «المستضعفین» في الجبل المقطم للسیاحة والارتیاض (الشیخ علي، ن.ص). وقیل إنه حضر یوماً من السیاحة إلی القاهرة ودخل المدرسة «السیوفیة»، فوجد شیخاً بقالاً علی بابها یتوضأ وضوءاً غیر مرتّب، فاعترض علیه ابن الفارض فقال له الشیخ وكان من أولیاء الله: یا عمر أنت ما یُفتح علیك في مصر وإنما یُفتح علیك بالحجاز في مكة فاقصدها فقد أن لك وقت الفتح (ن.ص).
رحل ابن الفارض بعد هذا اللقاء إلی الحجاز، وأمضی 15 عاماً من عمره في الجبال المحیطة بمكة مشغولاً في تزكیة نفسه وتهذیبها (م.ن، 1/5-6). وقد تركت هذه الأعوام الطویلة آثاراً عمیقة علی حیاته الروحیة، وله إشارات كثیرة إلی هذه الفترة في التائیة الصغری (ابن الفارض، 40). كما أن قصیدته الدالیة (م.ن، 130-133) التي أنشدها في مصر بعد عودته من الحجاز تطفح أیضاً بالإشارات والكلمات المثیرة حول مكة والبقاع المقدسة.
ولم یرد ذكر للشیخ البقال إلا بعد 15 عاماً – كما یقول الشیخ علي – حینما سمع ابن الفارض من باطنه ذلك الشیخ وهو ینادیه أن تعال إلی القاهرة واحضر وفاتي وصلّ عليّ. وأسرع ابن الفارض إلی القاهرة وصلّی علیه ودفنه حسب ما وصّاه في «القرافة» بسفح جبل المقطم في المسجد المعروف بالعارض (1/6). ولم یصرح الشیخ علي ولا أكثر المؤرخین باسم هذا الشیخ، ولم یقدّموه لنا إلا باسم «الشیخ البقال»، غیر أن ابن الزیات یسمیه بالشیخ أبي الحسن علي البقال (ص 297)، فیما یقول ابن إیاس إنه الشیخ محمد البقال (1(1)/267).
سكن ابن الفارض بعد عودته من الحجاز في صحن الخطابة بالجامع الأزهر (الشیخ علي، 1/11). وحظي باحترام السلاطین الأیوبیین، والأمراء ورجال البلاط، لكنه لم یُقبل علی البلاط ورجاله ولم یحضر مجالسهم، وكان یرفض أي دعوة من السلاطین للتقرب إلیه (ظ: الشیخ علي، 1/11-12؛ حلمي، 52-53).
وأخیراً توفي یوم الثلاثاء الثاني من جمادی الأولی 632 في صحن الخطابة بالجامع الأزهر عن 56 عاماً (الشیخ علي، 1/16؛ ابن خلكان، 3/455)، ودفن في الیوم التالي بالقرافة بسفح جبل المقطم عند المسجد المعروف بالعارض وبالقرب من قبر الشیخ البقال (ن.ص).
نسب إلیه المؤرخون الذین ترجموا له مثل ابن حجر (4/319)، وكذلك الشیخ علي (1/6، 11، 13) بعض الكرامات التي تدور في الغالب حول الفراسة أو الإطلاع علی الضمائر. ومن خصائص الحیاة الصوفیة عند ابن الفارض اهتمامه الخاص بـ «السماع» الذي هو عنده ذو معنی ومفهوم واسع جداً: من غناء القصّار وهو یقصر علی ضفاف النیل (الشیخ علي، 1/13-14) ونوح النائحة علي میَّتة (م.ن، 1/11) إلی غناء وعزف الجواري (ابن حجر، ن.ص؛ ابن العماد، 5/152). وكان ماشیاً یوماً في السوق فسمع صوت ناقوس حراس البلاط وغناءهم. فانقلب وتواجد وجداً عظیماً وتواجد معه المارة، وحدث سماع عظیم وسقط أكثرهم إلی الأرض (الشیخ علي، 1/10). وكانت روحه شفافة إلی درجة أنه كان یتأثر بمجرد مشاهدة الأشیاء من حوله، فنراه یتذكر الجمال الإلهي المطلق عند رؤیته لبرنیة جمیلة بدكان عطار ویهیم بها (ابن العماد، 5/151)، كما كان یتواجد ویطرب عند مشاهدة ماء النیل في اللیل وهو في حالة المد (الشیخ علي، 1/13).
تمیز عصره بكثرة النزعات الدینیة والعرفانیة المختلفة، وذلك بسبب بعض العوامل السیاسیة والاجتماعیة، لكن یجب أن لایغیب عن بالنا أبداً أن قالبلیته الروحیة كانت العامل الأصلي خلف نزوعه نحو العرفان؛ فكان یعیش في عصر لازالت خواطر الحروب الصلیبیة عالقة في الأذهان من جهة، بینما كان صلاح الدين الأیوبي قد قوّض صرح الخلافة الفاطمیة من جهة أخری. كما سعی الأیوبیون لتعزیز الروح الدینیة عند الناس لتكون سداً محكماً في وجه النصرانیة الأوروبیة، وفي وجه التشیع الإسماعیلي، ولهذا انصرفوا إلی تشیید المساجد والمدارس الدینیة في كل مكان علی أساس مذاهب أهل السنة، وبذلوا اهتماماً خاصاً في نشر التصوف. وبنی صلاح الدين الأیوبي خانقاهاً كبیراً في مصر یُعرف بدار سعید السعداء، ویُدعی شیخه بشیخ المشایخ، ثم أعقبه بتشیید خانقاهات ورباطات أخری في مناطق مختلفة. وقد تمخضت عن الحروب الصلیبیة ومن ثم الفتن والاضطرابات التي حدثت بعد وفاة صلاح الدين، وتصارع أبنائه وإخوته علی الملك، أوضاع اجتماعیة متدهورة وهیأت الأرضیة كثیراً للعزوف عن الدنیا والنزوع نحو الزهد والتصوف (ظ: نصر، 41-55).
ولاشك في أن ابن الفارض قد تأثر هو الآخر بتلك الأوضاع ونحن نُدرك من آثاره ومما كتب عنه أنه كان من ألمع وجوه العرفان الإسلامي، لكن لایمكن أبداً أن یُعد صوفیاً بالمفهوم المتعارف وأن یوضع في إطار نظام التصوف الخانقاهي؛ فقد كان – كما قال ولده – ذا ثیاب حسنة ورائحة طیبة (الشیخ علي، 4/1)، كما أنه في اجتماعه بالشیخ شهاب الدين السهروردي (تـ 632هـ)، صاحب عوارف المعارف، استأذنه السهروردي أن یُلبس أولاده (أي أولاد ابن الفارض) خرقة الصوفیة علی طریقته، فلم یأذن له في بدایة الأمر وقال له «لیست هذه طریقتنا» (م.ن، 1/13).
ویقع اسم ابن الفارض في میدان العرفان والتصوف خلال القرن 7هـ إلی جانب أسماء ابن عربي وصدر الدین القونوي وأضرابهما. وكانت قصائده لاسیما «التائیة الكبری» تدرّس في الخانقاهات والحلقات الصوفیة إلی جانب فصوص الحكم والفكوك. وتائیته طافحة بالمفاهیم والمصطلحات العرفانیة مثل: الاتحاد، والفناء والبقاء، والوجد والفقد، والفرق والجمع، وصحو الجمع، وصحو الجمع وفرق الثاني و… وقد وسّع فیها وفصّل بقابلیة تثیر الإعجاب في قالب التمثیل والتعابیر الشاعریة. ولهذا أنكر علیه ذلك علماء الظاهر ووصفوه بـ «شیخ الاتحادیة» وعبّروا عن تائیته بأنها كفالوذج سَمنه سم الأفاعي (الذهبي، تاریخ، 93-94). وقد بالغوا في آرائهم فیه حتی اعتبروا تائیته مصدراً للظلال والزندقة، ودعوا أئمة الدين إلی محو آثاره وإتلافها (م.ن، سیر، ن.ص؛ أیضاً ظ: ابن حجر، 4/318).
وكان العالم الحنبلي تقي الدين ابن تیمیة (تـ 728هـ) من ألدّ خصومه ومناوئیه، وكان یعارض بقوة رقصه وسماعه، ویعده إلی جانب ابن عربي وصدر الدین القونوي وابن سبعین والحلاج من القائلین بوحدة الوجود والحلول (حلمي، 117-119). ولابن خلدون علی هذا الصعید رأي مشابه، ینسب إلی ابن الفارض القول بالحلول والوحدة (1/473). ویقول ابن حجر عنه إن شعره ذا نزعة صوفیة وإشارات مجملة، وتحت الزيّ والعبارة فلسفة وأقاع. كما حذّر من السقوط في ورطة أفكاره ومع هذا فهو یعترف بأن له صورة كبیرة عند الناس لما كان فیه من الزهد والانقطاع (4/317).
وكان ابن بنت الأعز – الذي كان یشغل بمصر منصبي الوزارة وقاضي القضاة في عهد الملك المنصور قلاوون الصالحي – من أشد المعارضین لآراء ابن الفارض. وقد وبّخ شمس الدين الأیكي شیخ خانقاه سعید السعداء في مجلس بخانقاه الصاحلیة یوماً لأنه كان یأمر الصوفیة بقراءة قصیدة نظم السلوك لابن الفارض، في حین یمیل فیها إلی الحلول. وقد عُزل ابن بنت الأعز بعد فترة وجیزة عن القضاء والوزارة متَّهماً بسوء الاعتقاد، وقد اطلع آنذاك علی بیت من القصیدة التائیة ینزّه القصیدة عن نظریة الحلول (ابن الفارض، 73، البیت 8)، الأمر الذي أدی به إلی الرجوع عن رأیه في میل ابن الفارض إلی الحلول، واستغفر الله مما جری منه من الكلام في حقه (الشیخ علي، 1/8-9).
وقد ألف معارضو ابن الفارض الكتب في تفنید آرائه ومنهم الشیخ برهان الدين إبراهیم بن عمر البقاعي الشافعي (تـ 885هـ) مؤلف كتاب الناطق بالصواب الفارض لتكفیر ابن الفارض (GAL, I/307; GAL, S, I/465). وسجّل حاجي خلیفة اسم هذا الكتاب صواب الجواب للسائل المرتاب المعارض المجادل في كفر ابن فارض (1/267). وللبقاعي كتابان آخران في هذا المضمار: تنبیه الغبي إلی تكفیر ابن عربي وتحذیر العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد، طُبع كلاهما باسم مصرع التصوف (ظ: الوكیل، 10). وللبقاعي في هذه الكتب أسلوب یختلف عن أسلوب أغلب كتّاب عصره، فهو لایلجأ إلی طرح العمومیات في نقد آراء ابن عربي وابن الفارض ومریدیهما ولا في عرض آرائه، وإنما یبحث فیها بأسلوب موثَّق ینقل فیه أقوالهم مع أقوال معارضیهم في كل مسألة، ثم یناقشها بالدلیل وینقدها ویصدر رأیه فیها. وانصب اهتمامه في هذه الكتب علی شعر ابن الفارض، فنراه یستند إلیه سواء في دراسة أفكار المتصوفة أو في الفصول التي خصّ بها ابن الفارض (ص 54، 57-58، 71-73، 86، 89، مخـ) . وقدم البقاعي أیضاً ثبتاً مفصلاً بعلماء ومشایخ مختلف العصور الذین قالوا بتكفیر ابن الفارض (ص 213-217).
ورغم كثرة عدد المعارضین، فهناك من بین الشخصیات من عرف منزلة ابن الفارض وأضفی علیه الألقاب والعناوین مثل «سلطان العاشقین» (ابن العماد، 5/149). وكان السیوطي أحد المدافعین عنه، ویری أن إنكار بعض الفقهاء لشعره لالعداء یكنّه هؤلاء له، وإنما خوفاً من أن یأخذ العامة تلك الأبیات علی ظاهرها دون أن یفتحوا باب التأویل فینحرفوا (ظ: نصر، 62-63). وهبّ عدد من كبار المسلمین في العصور التالیة للدفاع عن ابن الفارض، فقد أعلن السلطان قایتباي نصرته لابن الفارض وسط ما كان قائماً في عهده من الخصومات العنیفة والآراء المتضاریة في ابن الفارض، وعندما استقرت الدولة العثمانیة في مصر، أمر السلطان العثماني في 924هـ/1518م بتلاوة القرآن خلال شهر رمضان في سبعة أماكن معروفة بالقاهرة، كان من بینها مسجد ابن الفارض (حلمي، 130). وفي 926هـ أصدر القاضي الشافعي زكریا بن محمد الأنصاري فتواه التي برّأ فیها ابن الفارض مما نسبه إلیه خصومه (ن.ص). وكان الفقیه الشافعي ابن حجر الهیتمي (تـ974هـ/1567م) ممن دافع عنه أیضاً (ن.ص). ویعدّ عبد الوهاب الشعراني (تـ973هـ) أحد أنصار ابن الفارض المتحمسین له، وكان یسعی للتوفیق بین الطریقة والشریعة وأن یبرأ ابن الفارض وابن عربي مما نُسب إلیهما. وكان لایذكر ابن الفارض إلا بقوله «سیدي عمر بن الفارض» (م.ن، 133؛ أیضاً ظ: الشعراني، 1/17). وكان الشیخ شهاب الدين السهروردي – كما ذكرنا – من بین الفضلاء الذین مالوا كثیراً إلی ابن الفارض (الشیخ علي، 1/13).
وأهم شخصیة اتُهم ابن الفارض بالاشتراك معه في الاعتقاد هو محیي الدين ابن عربي (تـ 638هـ). وكان ابن عربي یولي اهتماماً خاصاً بتائیة ابن الفارض، وقیل إنه عزم علی كتابة شرح علیها، فقال له ابن الفارض: إن كتابك المسمی بالفتوحات المكیة شرح لها (ظ: المقري، 2/166). ومع أن هذا الكلام قد یكون موضوعاً ولا أساس له – أشار بروكلمان إلی نسختین من شرح ابن عربي للتائیة الكبری في مكتبتي بني وشهید علي باشا (ظ: GAL, I/305; GAL, S, I/463) – لكن یبدوأن ابن عربي كان یشجع تلامذته علی شرح التائیة. فقد كان صدر الدین القونوي يختم دروسه بأبیات من التائیة ویذكر كلام ابن عربي عليها ثم یتلوه بما یورده بالفارسیة. وهذه التقریرات هي التي جمعها سعید الدین الفرغاني وقرأها علی جلال الدين محمد المولوي، ثم عرضها علی صدر الدین وبالتالي أطلق علی شرح التائیة بالفارسیة اسم مشارق الدراري اعتماداً علی تلك التقریرات، ثم ترجمه إلی العربیة وأسماه منتهی المدارك (حاجي خلیفة، 1/265-266). ویقول صدر الدین القونوي في المقدمة التي كتبها لكتاب مشارق الدراري إننا اجتمعنا في أواخر حیاة ابن الفارض في أحد الجوامع، ولم یتم لقاء بیننا مع أن كلاً منا كان مصراً علی هذا اللقاء. ویضیف صدر الدین بأنه سافر من الشام إلی مصر في 643هـ/1245م، فقرأ مع جماعة من الفضلاء القصیدة التائیة في مصر والشام وبلاد الروم، وشرح لهم مشكلاتها. وكان سعید الدين الفرغاني الوحید الذي دوّن تلك التقریرات (ص 5-6).
إن ظهور مدرسة ابن عربي ورأیها القائل بوحدة الوجود في مطلع القرن 7هـ، والاهتمام الخاص الذي أبداه أنصار هذه المدرسة تجاه آثار ابن الفارض، قد دفع بشرّاح التائیة غالباً إلی شرحها من منظار فكرة وحدة الوجود. ورغم أن بعض أبیاتها تحمل طابع وحدة الوجود (ابن الفارض، 66-67، 69، 75، 89، 100، 109، مخـ)، إلا أن القصیدة بكاملها لاتنطبق مع أصول وقواعد هذه المدرسة. وتنسجم رؤیة ابن الفارض العرفانیة بشكل عام مع وحدة الشهود. وعلی النقیض من ابن عربي الذي یعرض فكرته العرفانیة بأسلوب فلسفي واستدلالي وشامل، نری ابن الفارض لایحاول تبیین نظام الوجود بشكل فلسفي.
ولایری ابن الفارض اتحاد وجود الواجب مع وجوده ووجود العالم، بل یعتقد أن السالك سیصل في سیره وسلوكه إلی مقام تُمحی فیه أنانیته وأهواؤه النفسیة، وبالتالي یحصل علی نوع من الصحو الذي یری فیه نفسه والحقَّ واحداً، والمحب والمحبوب والشاهد والمشهود واحداً أیضاً. وفي هذه المرحلة من الشهود التي یعبَّر عنها بصحو الجمع أو الصحو الثاني أو الصحو بعد المحو (م.ن، 67)، یفنی وجود الشاهد في وجود المشهود ولایبقی له أي أثر، مثلما یختفي أثر الكواكب بظهور الشمس. وفي هذه الحالة یُصبح السالك مجریً لإرادة الحق، وإن ما یفعله، إنما یفعله الحق في حقیقة الأمر. ویأخذ كلامه في مثل هذه الحالة طابع الشطح: إنه قلة وكعبة نفسه، یصلي لنفسه (م.ن، 61، 69)، كل الفضائل من فیضه (ص 76)، وتدل ذاته بآیاته علی ذاته (ص 89). وكان یعتمد الأدلة النقلیة في تبریر عقیدته أیضاً. ومن تلك الأدلة قضیة دحیة الكلبي الذي ظهر جبرائیل علی صورته عند هبوطه علی الرسول(ص): عندما ظهر جبرائیل علی صورة دحیة الكلبي، فهل كان جبرائیل هو دحیة نفسه؟ (ص 73). ونراه یستخدم هذا الدلیل لنفي الحلول عن عقیدته (ن.ص). ومع ذلك فقد اتهموه بالحلول وبوحدة الوجود.
ابن الفارض شاعر ممتاز، فهو من جهة یمتلك موهبة شعریة عظیمة، ومن جهة أخری یبلغ شعوره وإدركه الدیني والعرفاني درجة الكمال والشموخ. ویعتقد البعض أن ابن الفارض موجد الطریقة الرمزیة في الشعر العربي (ظ: الزیات، 354؛ قا: فروخ، التصوف…، 100-101)، وحتی لو لم یكن كذلك فهو بلاشك قد أفاد بجدارة من تجارب وإبدعات الماضین في هذا الشأن، أي في الأدب الصوفي لاسیما الشطحات الصوفیة، التي وصل بها في شعره إلی الكمال. وقد أضفی الرمز والكنایة علی شعره قوة وتأثیراً واسعاً، بل تُعدّ من أهم أسباب انتشاره وذیوعه.
ویبلغ شعر ابن الفارض الذروة في قصیدة التائیة الكبری التي تتألف من 750 بیتاً ونیفاً، وهي تعادل نصف إنتاجه الشعري تقریباً، وهي تكشف عن سلوكه المعنوي وتعدّ رسالة معراجه. أسمی ابن الفارض قصیدته هذه أولاً «أنفاس الجنان ونفائس الجنان»، ثم عاد وغیّر اسمها إلی «لوائح الجنان وروائح الجنان»، ثم أسماها آخر الأمر – كما قال الشیخ علي - «نظم السلوك» بإشارة من الرسول(ص) الذي رآه في المنام (1/8). وهو یعتقد أن كل ما یهبه للطلاب في هذه القصیدة، إنما هو من المواهب الإلهیة التي وصلت إلیه، لأن وجوده قد أشرق من أنوار ذات الحق، ویری نفسه أنه هُوَ (ابن الفارض، 115). ویورد الشیخ علي (ن.ص) أنه كانت تحصل لابن الفارض جذبات یغیب فیها عن حواسه نحو الأسبوع والعشرة أیام، فإذا أفاق أملی ما فتح الله علیه من القصیدة التائیة.
كان شعر ابن الفارض متأثراً بالتقلید الشعري السائد في عصره، وطافحاً بالبدیع. ولایخلو دیوانه من العیوب والتعقیدات الشعریة سیما في المواضع التي لجأ فیها إلی التكلف. ومع ذلك فإن جمال كلماته وذوقه في انتقاء الألفاظ قد أضفیا علی شعره امتیازاً خاصً، حتی إن ماسینیون قد شبهه بسجادة مطرزة بالذهب یحملها الحجاج إلی الكعبة (شفیعي كدكني، 160). وابن الفارض شاعر الحب، وقصائده كقصائد الغزل مشحونة بمضامین وتعابیر الحب. ولما كان حبّه – سیما في نظم السلوك – حباً إلهیاً، فالتوسع في المعنی یؤدي إلی التوسع في الكلام. كما أن تكرار المضامین واستخدام البدیع بأنواعه اللفظیة والمعنویة، والجناس والطباق والتضاد والإبهام وأنواع المجاز والاستعارة یؤدي إلی الإطلالة في القصیدة. ویقول المستشرق الألماني هامر: «تائیة ابن الفارض في الشعر العربي مثل غزل سلیمان في التوراة» (المقدسي، 459).
وهناك من بادر بعد ابن الفارض إلی تقلیده والاقتباس من شعره، كأبي الفضل عز الدین عامر بن عامر البصري (القرن 8 هـ)، حیث نظم تائیة من 502 بیت عارض فیها تائیة ابن الفارض. وهذه القصیدة العرفانیة تجري مجری الغزل (فروخ، تاریخ…، 3/746). وقد أورد القاضي نور الله الشوشتري جزءاً من هذه القصیدة التي تُدعی «ذات الأنوار» مع مقدمة نثریة لهذا الشاعر الشیعي في مجالس المؤمنین (2/58-61). انبری عامر في تلك المقدمة إلی الدفاع عن عقیدة ابن الفارض التوحیدیة، نافیاً بالأدلة عن شعره تهمة الحلول. كما عارض عالم شیعي آخر یدعی الحافظ رجب البُرسي بعض أشعار ابن الفارض (الشیبي، 280-281؛ أیضاً ظ: ذكاوتي، 139). ولمؤید الدين الجندي – من العارفین في القرن 7هـ - أبیات رقیقة في بیان الحقائق والمعارف علی طریقة ابن الفارض، وقد أجاب علی القصیدة التائیة جواباً حسناً نقل منها الجامي بیتین في نفحات الأنس (ص 559). وللشیخ شهاب الدين ابن أبي حجلة قصائد في مدح النبي(ص) علی أوزان قصائد ابن الفارض (ظ: ابن حجر، 4/318-319). ومن الشعراء الذین تابعوا ابن الفارض كانت عائشة الباعونیة (تـ 922هـ) التي كان أغلب شعرها بدیعیات مقتبسة من شعر ابن الفارض (فروخ، ن.م، 3927). وفي دیوان عبد الرحیم بن أحمد البُرَعي تقلید ظاهر لابن الفارض (ن.م، 3/821).
یحتوي دیوانه الذي جمعه سبطه الشیخ علي علی قصائد و«دو بیتیات» وألغاز وموالیا. طُبع لأول مرة بحلب في 1257هـ، ثم توالی طبعه. وفضلاً عن الدیوان، ینسب إلیه حاجي خلیفة قصیدة باسم «الدر النضید» (1/735).
وهناك عدة شروح لدیوان ابن الفارض، أهمها: 1. شرح حسن البوریني (تـ 1024هـ/1615م)، وهو شرح أدبي ولغوي خال من التأویلات الصوفیة، وأطلق علی هذا الشرح اسم البحر الفائض في شرح دیوان ابن الفارض (م.ن، 1/767)، طُبع بالقاهرة عام 1279هـ؛ 2. شرح عبدالغني النابلسي (تـ 1143هـ) ویُعرف بـ كشف السر الغامض من شرح دیوان ابن الفارض، ویتناول التأویلات العرفانیة. طبع بالقاهرة في 1392هـ/1972م؛ 3. جمع رشید بن غالب الدحداح الشرحین أعلاه في شرح واحد. وكان یورد بعد كل بیت الشرح الظاهري واللغوي للبوریني ومن ثم شرح النابلسي. طُبع هذا الكتاب مراراً، دون أن یضم شرح «التائیة الكبری». وأضیف إلی طبعة الكتاب بالقاهرة عام 1310هـ، شرح الكاشاني للقصیدة في الحاشیة (للاطلاع علی باقي شروح الدیوان، ظ: ذكاوتي، 120؛ GAL, I/305).
أهم آثار ابن الفارض قصیدة «التائیة الكبری» أو «نظم السلوك» والتي تُدعی «نظم الدر» أیضاً، كتبت علیها شروح كثیرة، منها: 1. مشارق الدراري الذي سبق أن تحدثنا عنه؛ 2. منتهی المدارك، الترجمة العربیة لكتاب مشارق الدراري، الذي ألفه سعید الدین الفرغاني (ظك آشتیاني، 134)؛ 3. كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدر، لعز الدين محمود بن علي الكاشاني (تـ 735هـ)، وهو بالعربیة، طبع بالقاهرة، عام 1310هـ مع شرح دیوان ابن الفارض، كما طبع بطهران عام 1319هـ. وتصور البعض خطأ أن هذا الكتاب هو من تألیف عبدالرزاق الكاشاني (ظ: GAL, S, I/463-464)، فطبع باسمه، وقد بحث جلال الدين همائي في مقدمة كتاب مصباح الهدایة لعز الدین الكاشاني ذلك الأمر، وأثبت أن الكتاب لعز الدین (ص 16، 19)؛ 4. شرح نظم الدر، لصائن الدين علي بن محمد تركه (تـ 835هـ) وتصور حاجي خلیفة خطأً أنه لصدر الدين (للاطلاع علی باقي الشروح، ظ: حاجي خلیفة، 1/266؛ نصر، 60؛ GAL,S، ن.ص؛ GAL, I/305-306). وفضلاً عن شروح «التائیة الكبری» فقد عرّف بروكلمان أیضاً بشروح علی «التائیة الصغری»، غیر أن التائیة الصغری قصیدة قصیرة في الدیوان، سمیت بهذا لاسم تمییزاً لها عن التائیة الكبری، وإن ما أورده بروكلمان حولها إنما هو في الحقیقة یخص نظم السلوك أو التائیة الكبری (ظ: GAL, GAL, S، ن.ص).
وتعد القصیدة العرفانیة المسماة بالمیمیة أو الخمریة أشهر قصیدة لابن الفارض بعد التائیة الكبری، وهي في وصف شراب الحب الإلهي. وعلیها شروح عدیدة، طُبع منها حتی الآن شرحان بالفارسیة: 1. مشارب الأذواق، لأمیر سید علي الهمداني، طبع بطهران بتحقیق محمد خواجوي (1362ش)، وطبع في باكستان أیضاً ضمن مجموعة أحوال وآثار میرسید علي همداني، تحقیق محمد ریاضي (1364ش)؛ 2. لوامع أنوار الكشف والشهود علی قلوب أرباب الذوق والجود، والمشهور بـ اللوامع لعبد الرحمن الجامي. طبع هذا الكتاب مراراً، منها في مجموعة لوامع ولوایح تحقیق إیرج أفشار، طهران، 1360ش (للاطلاع علی شروح أخری، ظ: ذكاوتي، 121؛ حاجي خلیفة، 2/1338؛ GAL, GAL, S، ن.ص). كما كتبت شروح علی «الیائیة» و«الذالیة» والألغاز أیضاً (ظ: حاجي خلیفة، 2/1349؛ GAL, GAL, S، ن.ص).
وأدی إقبال المستشرقین علی آثار ابن الفارض إلی ترجمة قصائده إلی اللغات العالمیة كالألمانیة والإیطالیة والإنجلیزیة والفرنسیة والدنماركیة، مثل ترجمة التائیة الكبری نظماً إلی الألمانیة بواسطة هامربورغشتال، وإلی الإیطالیة بواسطة اینیاتسیودي ماتئو، وإلی الإنجلیزیة بواسطة نیكلسون. كما نُشرت ترجمة فارسیة للتائیة الصغری في المجلد 5 من نامۀ دانشوران (للاطلاع علی التراجم، ظ: أوانسیان، 23؛ ذكاوتي، 122؛ EI2).
آشتیاني، جلال الدین، مقدمة مشارق الدراري (ظ: همـ، الفرغاني)؛ ابن إیاس، محمد، بدائع الزهور، تقـ: محمد مصطفی، القاهرة، 1402هـ/1982م؛ ابن تغري بردي، النجوم؛ ابن حجر العسقلاني، أحمد، لسان المیزان، حیدرآباد الدكن، 1329-1331هـ؛ ابن خلدون، مقدمة، بیروت، دار الفكر؛ ابن خلكان، وفیات؛ ابن الزیات، محمد، الكواكب السیارة، مصر، 1907م؛ ابن العماد، عبد الحي، شذرات الذهب، القاهرة، 1351هـ؛ ابن الفارض، عمر، دیوان، بیروت، 1404هـ/1983م؛ أوانسیان، أوانس، مقدمة یادداشتهائي در باب فصوص الحكم ابن عربي لنیكسون، طهران، 1363ش؛ البقاعي، برهان الدین، مصرع التصوف، تقـ: عبد الرحمن الوكیل، بیروت، 1400هـ/1980م؛ الجامي، عبدالرحمن، نفحات الأنس، تقـ: مهدي توحيديي پور، طهران، 1336ش؛ حاجي خلیة، كشف؛ حلمي، محمد مصطفي، ابن الفارض والحب الإلهي، القاهرة، 1971م؛ ذكاوتي قراگزلو، علی رضا، «ابن فارض، شاعر حب إلهي»، نشریۀ معارف، طهران، 1365ش، الدورة 3، عد 3؛ الذهبي، محمد، تاریخ الإسلام، الطبقة 64، تقـ: بشار عواد معروف وآخرون، بیروت، 1408هـ/1988م؛ م.ن، سیر أعلام النبلاء، تقـ: بشار عواد معروف ومحیي هلال السرحان، بیروت، 1405هـ/1985م؛ رشید بن غالب، شرح دیوان ابن الفارض (للشیخین البوریني والنالبلسي)، القاهرة، 1310هـ؛ الزیات، أحمد حسن، تاریخ الأدب العربي، القاهرة، دار النهضة؛ السیوطي، حسن المحاضرة، تقـ: محمد أبو الفضل إبراهیم، القاهرة، 1387هـ/1967م؛ الشعراني، عبد الوهاب، الطبقات الكبری، القاهرة، 1374هـ/1954م؛ شفیعي كدكني، محمد رضا، تعلیقات علی تصوف إسلامي (ظ: همـ، نیكلسون)؛ شوشتري، نور الله، مجالس المؤمنین، طهران، 1365ش؛ الشیبي، كامل مصطفی، الفكر الشیعي والنزعات الصوفیة حتی مطلع القرن الثاني عشر الهجري، بغداد، 1386هـ/1966م؛ الشیخ علي، مقدمة دیوان ابن الفارض (ظ: همـ، رشید ابن غالب)؛ صدر الدین القونوي، مقدمة مشارق الدراري (ظ: همـ، الفرغاني)؛ الفرغاني، سعید الدین، مشارق الدراري، تقـ: جلال الدين آشتیاني، طهران، 1357ش؛ فروخ، عمر، تاریخ الأدب العربي، بیروت، 1403هـ؛ م.ن، التصوف في الإسلام، بیروت، 1401هـ/1981م؛ المقدسي، أنیس، أمراء الشعر العربي في العصر العباسي، بیروت، 1983م؛ المقري، أحمد، نفح الطیب، تقـ: إحسان عباس، بیروت، 1388هـ/1968م؛ المنذري، عبد العظیم، التكملة لوفیات النقلة، تقـ: بشار عواد معروف، بیروت، 1405هـ/1984م؛ نصر، عاطف جودة، شعر عمر بن الفارض، بیروت، دار الأندلس؛ نیكلسون، رونالد، تصوف إسلامي ورابطۀ إنسان وخدا، تجـ: محمد رضا شفیعي كدكني، طهران، 1358ش؛ همائي، جلال الدين، مقدمة مصباح الهدایة لعز الدین محمود الكاشاني، طهران، 1367ش؛ الوكیل، عبد الرحمن، مقدمة مصرع التصوف (ظ: همـ، البقاعي)؛ وأیضاً:
EI2; GAL; GAL, S.
أكرم جودي نعمتي/ت.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode