ابن طفیل
cgietitle
1442/11/21 ۰۸:۳۲:۵۵
https://cgie.org.ir/ar/article/233882
1446/9/13 ۲۲:۳۵:۰۱
نشرت
3
اِبْنُ طُفَیل، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد القیسي (تـ 581هـ/1185م)، طبیب وفیلسوف وشاعر ووزیر وفقیه أندلسي. لایُعرف بالضبط تاریخ میلاده، إلا أن البعض رجّح أن یكون بین 495 إلی 505هـ/1102 إلی 1111م (ظ: بدوي، 1/67؛ قا: جنثالث پالنثیا، 348). ولد في برشانة من عمل ألمریة (ابن الأبار، 96)، أو في وادي آش من عمل غرناطة (ابن أبي زرع، 207). ولانعرف علی وجه الدقة أیضاً أین وكیف تعلّم ومن هم شیوخه، عدا ما قیل من أنه تلقی العلم بغرناطة (ابن الخطیب، الإحاطة، 2/479).
وأورد المراكشي أنه قرأ علی جماعة من المتحققین بعلم الفلسفة كابن باجة (ن.ع) (ص 240). غیر أن ابن طفیل نفسه صرّح في رسالة حي بن یقظان أنه لم یلتق به (ص 21). وبرّر البعض إنكار ابن طفیل التقاءه بابن باجة لما اشتهر به الأخیر من إلحاد (فروزانفر، 3). ویعزز هذا الاحتمال دلیلان: الأول أن ابن طفیل ضمن حدیثه عن الفلاسفة القدامی، قدّم ابن باجة علی كل المشتغلین بالحكمة والفلسفة في المغرب والأندلس (ن.ص)؛ والثاني ملاحظة جذور أفكار ابن باجة في قصة حي ابن یقظان، ولهذا نجد من السهل الأخذ بأدلة وجود علاقة «الأستاذ والتلمیذ» بین هذین المفكرین. وعدّ ابن الخطیب (ن.ص)، أبا محمد الرُّشاطي وعبد الحق ابن عطیة من أساتذته. ویمكن أن نستشف من تقریر ابن دحیة الخاص بحیاة محمد بن شرف – أحد علماء الأندلس– أن ابن طفیل تعلّم أیضاً علی ولده أبي الفضل جعفر بن محمد (ص 66).
ورغم أننا لانعرف بالضبط أین درس ابن طفیل الفلسفة وعلی أيّ من الشیوخ، إلا أن كافة المصادر المتقدمة والمتأخرة أثنت علی مكانته العلمیة والفلسفیة، وعدّته أحد كبار الفلاسفة، وذكرت أنه كان متحققاً بجمیع أجزاء الحكمة وحریصاً علی الجمع بین الحكمة والشریعة مع اتساع في العلوم الإسلامیة الأخری (ظ: المراكشي، ن.ص). وعدّه ابن دحیة ضمن استعراض عناوینه العلمیة، واحد عصره وفرید دهره (ن.ص). كما ذكر ابن سعید أن أباه أخبره بالتقائه كثیراً من العلماء كانوا یفضلونه علی ابن باجة (2/85)، في حین وصفه ابن أبي زرع بأنه من أهل الحذق بصناعة الطب والنظر في الجراحات (ن.ص).
انكبّ ابن طفیل علی المطالعة والتحقیق في المكتبة المهمة التي شیدها الأمیر الموحدي أبو یعقوب (البیومي، 1/633). ورغم ما قیل من أنه تكسّب بالتدریس والطب في أول حیاته (فروخ، 623)، لكننا لانعرف المكان الذي درّس فیه ولاتلامذته. وأشار البعض إلی إسحاق البطروجي، وربما ابن رشد (عباس، 22-23؛ قا: EI2) وابن دحیة (ن.ص). وأورد المراكشي بإسهاب نقلاً عن أبي بكر بندود بن یحیی في أن ابن طفیل عرّف ابن رشد إلی أبي یعقوب یوسف الموحدي (ص 242-243)، ویفهم من هذا أن ابن طفیل كان علی معرفة كاملة بابن رشد ومستواه العلمي، بل كان یعرف حتی أسرته وأجداده. ومن هذا یمكن أن نستنتج أن ابن رشد كان تلمیذاً من تلامذته. وإذا ما أخذنا بهذا الاستنتاج أمكننا القول إن إسحاق البطروجي وابن رشد متمیزان علی باقي تلامذته، لأن البطروجي هو مَن تُمثّل نظریته في الحركة اللولبیة ذروة النهضة الإسلامیة المضادة لبطلیموس. وقد تمكن ابن طفیل عن طریقه تولي زعامة الجانب الفلكي. أما ابن رشد فقد ذاعت في أوروبا آراؤه في أصالة العقل (ظ: ن.د، ابن رشد، الحفید).
اشتغل ابن طفیل في غرناطة بالطبابة أولاً. وعندما ثار أبو الحسن ابن ملحان الطائي بوادي آش علی دولة المرابطین، واستولی علی السلطة في 539هـ/1144م، شق ابن طفیل طریقه إلی بلاطه مع جملة من مشاهیر أهل العلم والأدب كأبي الحكم هَرودوس، وأصبح أمین سرّه وكاتبه. ویبدو أنه ظل في بلاطه حتی 546هـ/1151م حینما سلّم ابن ملحان وادي آش إلی ابن مردنیش (ن.ع) ودخل في طاعته (ابن الخطیب، أعمال، 264)، ثم أصبح كاتباً لوالي غرناطة (ابن الأبار، ن.ص). وتولی الكتابة لدی أبي سعید عقمان بن عبدالمؤمن والي سبتة وطنجة عندما عیّن الخلیفة الموحدي في 549هـ أولاده ولاةً علی مدن المغرب والأندلس (ابن أبي زرع، 194)، حتی ولي آخر الأمر الوزارة والطبابة والقضاء لدی الخلیفة أبي یعقوب یوسف بن عبدالمؤمن وصار من أصحابه البارزین (المراكشي، 239؛ تاریخ، 1/753). وكان أبو یعقوب یأخذ عنه (ابن سعید، 2/85)، كما كان شدید الشغف به والحب له. وكان ابن طفیل یقیم في القصر عنده أیاماً لیلاً ونهاراً لایظهر (المراكشي، 240). ولما كان أبو یعقوب یمیل كثیراً إلی الحكمة والفلسفة، فقد قام ابن طفیل باستقدام العلماء إلی البلاط وحثّ أبا یعقوب علی احترامهم. وأهم الشخصیات التي استدعاها «أبو الولید ابن رشد» الذي كان مغموراً حتی هذه الفترة، ثم اشتهر بعد ذلك الاستدعاء وعرف الناس بمكانته العلمیة (للاطلاع علی تفاصیل ذلك اللقاء، ظ: ن.د، ابن رشد). وظل ابن طفیل وزیرا وطبیباً لدی أبي یعقوب (ابن أبي زرع، 207)، حتی عیّن ابن رشد علی الطبابة، وأبقاه علی الوزارة في 578هـ/1182م (نادر، 10).
وأورد ابن سعید أنه لما مات أبو یعقوب أتُّهم ابن طفیل بأنّه سمّه فخلد مسجوناً (ن.ص). وهذا الكلام غیر صحیح لأدلة عدیدة، منها ما قیل من أن أبا یعقوب قُتل في حرب الإفرنج (فروخ، 623)، وكذلك عدم تزعزع مكانته لدی الموحدین بعد وفاة أبي یعقوب، واحتفاظه بصداقة ولده أبي یوسف الذي تولی مقالید الأمور في 580هـ، وكان وزیراً له (الدجیلي، 1/308). وسرعان ما توفي ابن طفیل بمراكش في 581هـ وحضر الأمیر الموحدي جنازته (ابن الأبار، ن.ص؛ قا: نادر، ن.ص).
كان ابن طفیل یقرض الشعر أیضاً، وخلّف أشعاراً لاتصل إلی مستوی الشعر الذي جادت به قرائح كبار الشعراء. والمراكشي الذي التقی ابنه یحیی بمراكش في 603هـ/1207م، سمع منه أبیاتاً أنشدها أبوه، وقام بنقلها (ص 240-242). كما نقل بعض شعره وقصائده بعد المراكشي آخرون كابن الأبار (ص 96-99)، وابن سعید (2/86)، والصفدي (4/37)، وابن الخطیب (الإحاطة، 1/193، 2/479-481)، والمقري (1/608-611). وكان علی معرفة بالأدب والموسیقی، وفاق أقرانه في أجزاء الحكمة ومختلف الفنون، ولهذا كان یأخذ الجامكیة مع عدة أصناف من الخَدَمة (المراكشي، 240). ونقل المقري رسالة له تُفصح عن تضلعه من الأدب وفن الكتابة (1/607-615).
كان ابن طفیل یعیش في رخاء وراحة بال، ولم یمر خلال حیاته بأزمات حادّة وحوادث تتسم بالخطورة. وكان شغفاً بالكتب والمطالعة، إلا أنه كان یمیل إلی التأمل والتفكر أكثر منه إلی التألیف، ولهذا تعد آثاره قلیلة قیاساً إلی عمره الطویل نسبیاً في ظل حیاة هادئة. لكن لابد من الإشارة إلی أن الكثیر من آثاره قد فقد علی مر الأیام لم یصلنا. ومع ذلك یذكر المراكشي أنه رأی لابن طفیل تصانیف في أنواع الفلسفة من الطبیعیات والإلهیات، من بینها رسالة في النفس بخطه (ص 240).
ولابن طفیل تصانیف في علم الطب أیضاً، أشار الغزیري إلی مجلدین من كتاب له في الطب (ظ: ESC1, II/76)، فیما ذكر ابن الخطیب أیضاً الأرجوزة الطبیة (الإحاطة، 2/479). ونُسب إلیه كتاب آخر یُعرف بمراجعات ومباحث بین أبي بكر ابن طفیل وبین ابن رشد في رسمه للدواء في كتابه الموسوم بالكلیات (ابن أبي أصیبعة، 2/78). نُسب هذا الكتاب أیضاً إلی ابن رشد. وله في علم الفلك مؤلفات أیضاً أشار ابن رشد إلی أحدها في كتاب شرح الأوسط علی كتاب الآثار العلویة لأرسطو. ویقول البطروجي: إن ابن طفیل عثر علی نظام فلكي وتفسیر لحركات الأفلاك علی نحو مخالف لما قاله بطلیموس، استغنی فیه عن الدوائر الداخلیة والخارجیة (بدوي، 1/69).
وفضلاً عن رسالة حي بن یقظان، فقد وصلتنا آثار مبعثرة أخری له: نسخة من الأرجوزة الطبیة في خزانة القرویین بفاس (عباس، 25). ومن قصائده وأبیاته التي وردت في الكتب والمصادر المتقدمة، قصیدة في السیاسة (غومث، 1/25-32).
أهم أثر خلّفه ابن طفیل هو كتاب حي بن یقظان. ورغم اعتباره قطعة فلسفیة تتناول أهم قضایا الطبیعیات والإلهیات، من حیث المحتوی والمضمون، إلا أنه من حیث الأسلوب والكتابة یعبّر عن أروع مظاهر الخیال. وتتجلی أهمیة ابن طفیل وفنه في أنه استطاع أن یمزج بین أعقد القضایا الفكریة والفلسفیة، وملكة الخیال لدیه، ثم یقدمها في حُلّة رائعة وجذابة إلی الفكر البشري (ظ: ن.د، حي بن یقظان).
كان المغرب الإسلامي في عهد ابن طفیل بید الموحدین، وقد أبدی حكام هذه الأسرة رغبة شدیدة في الجمع بین العقل والدين. وطالما خضع المغرب الإسلامي لحكم البربر، لكن عندما حلّت دولة الموحدین محل دولة المرابطین، ظهر ابن تومرث (ن.ع) علی المسرح السیاسة وادعی المهدویة في 515هـ/1121م. وبلغت دولة الموحدین التي كان مركزها في مراكش ذروة عظمتها في عهد أبي یعقوب یوسف (حكـ 558-580هـ/1163-1184م) وأبي یوسف یعقوب (حكـ 580-595هـ/1184-1198م) خلیفتي عبد المؤمن بن علي. وقد أدخل هؤلاء كثیرأ من القضایا الجدیدة في علم الكلام. كما أدی ذیوع المذهب الأشعري وأفكار الغزالي في المغرب إلی ظهور نزوع عقلي في مذاهب المتكلمین هناك. وكان هناك شعور بعدم الرضا الكامل بین الملتزمین بسنة السلف وبعض ذوي الأفكار الحرة، ومع ذلك فقد استطاعت هذه الحركة العقلیة أن تقود الكثیرین إلی التأمل الفلسفي والتدبر في الأمور. وكانت هذه الأحداث تجري في حین كان الرأي العقلي حتی تلك الفترة یثیر غضب الناس ویجر صاحب الرأي إلی مصیر أسود.
وفي تلك المعمعة اتفق بعض السیاسیین وكثیر من المفكرین علی أن لاتتغیر آراء عامة الناس وأفكارهم، وأن لاترتقي معرفتهم إلی مستوی المعرفة العقلیة والفلسفیة. وانطلاقاً من ذلك فقد بذلوا كل ما بوسعهم من أجل فصل الدين عن الفلسفة وتحدید دائرة كل منهما. وكان حكام أسرة الموحدین ینزعون نحو المذاهب الكلامیة، غیر أن أبا یعقوب وخلیفته أبدیا اهتماماً خاصاً بالعلوم العقلیة بقدر ما سمحت به الأوضاع السیاسیة؛ ونجم عن اهتمامهما بالعلوم العقلیة ازدهار الفلسفة في بلاطهما خلال فترة وجیزة نسبیاً (دي بور، 248).
وكان ابن طفیل یعیش في مثل هذه الأوضاع، ما كان یحظی بمنزلة رفیعة في بلاط الموحدین، حتی إنه كان یقضي جُلّ أوقاته – كما قلنا– مع أبي یوسف یعقوب ویلازم هذا الحاكم المحب للعلم. ویمكن أن تُعزی تلك الملازمة إلی التقارب الروحي بینهما: فابن طفیل كان حسن البیان، فیما كان أبو يعقوب یوسف بارعاً في بعض العلوم وطلق اللسان ویجالس الكثیر من العلماء والفضلاء ویحفظ القرآن وصحیح البخاري، وعارفاً بالأدب العربي وبعض كتب الفقه. كما ورد أنه بدأ بتعلم علم الطب وطمح إلی الحكمة والعلوم العقلیة أیضاً وجمع من كتب الحكمة والفلسفة شیئاً كثیراً (عباس، 19).
ألّفت هذه الرسالة في مثل هذه الظروف، وتعد أهم أثر یكشف عن آراء ابن طفیل. ویُفترض في هذه الرسالة ولادة حي ابن یقظان من التراب في جزیرة نائیة من جزر الهند ذات مناخ معتدل. ویروي ابن طفیل لبعض الاعتبارات تولد هذا الإنسان بشكل آخر، فحسب هذا الفرض كان بإزاء هذه الجزیرة جزیرة أخری تزوجت فیها أخت ملكها سراً من شخص رأته كفوءاً لها، فحملت منه ووضعت طفلاً، فلما خافت أن یفتضح أمرها وضعته في تابوت أحكمت غلقه ثم قذفت به في الیم، فدفعه إلی الجزیرة المقابلة، وطبقاً للفرضیتین فقد وقع صوت استغاثة الطفل وبكاؤه في أذن ظبیة اختطف العقاب ولدها، فألقمته حلمتها واهتمت بتربیته. وأخذ ینمو ویترعرع وحیداً بین الحیوانات وبعیداً عن تأثیر الإنسان وتهذیبه. وقاده تأمله في أحوال الموجودات الكونیة من معرفة العوالم المحسوسة إلی فهم الحقائق المعقولة وإدراكها، واستوعب عالم المحسوسات والمجردات بالشكل الذي أشار إلیه الفلاسفة والحكماء الإغریقیون والمسلمون، وفهم الحقائق الأخلاقیة – التي هي تعالیم الحیاة – من خلال الاستدلال، وأدرك المعارف الإلهیة، وتعرّف إلی ذات الحق وصفاته، كما توصل بالریاضة والتأمل إلی ما جاء في تعالیم الأنبیاء والتي كان یجهلها عن طریق الاستدلال والمكاشفة، ثم تعرّف إلی «أَبسال» الذي قدم إلی هذه الجزیرة النائیة الموحشة. وكان أبسال متدیناً غیر أنه من أهل التأویل ولایقنع بظواهر الدين. وهذا ما دفعه إلی الانفصال عن صدیقه «سَلامان» الذي كان ممن یتمسكون بالظاهر، وقدومه إلی هذه الجزیرة. وانتهز حي ابن یقظان صحبته لأبسال لیتعلم منه الدين واللغة والآداب الاجتماعیة.
وهنا یؤكد ابن طفيل علی أن ما عرفه أبسال من الشریعة عن طریق التعلم هو نفس ما توصل إلیه حي بن یقظان عن طریق العقل والاعتبار، وأن الدين والفلسفة یتفقان في كل ما له صلة بالشریعة والحقیقة، وینتهیان إلی نفس النهایة. وتستمر القصة بذهاب حي بن یقظان مع أبسال إلی الجزیرة المجاورة والتي كان یقیم فیها أبسال مع سلامان وتركها أبسال انطلاقاً من تفكیره الحر وعدم الاهتمام بالقیود الظاهریة. وقد ذهبا إلیها كي یدرك حي بن یقظان معنی الحكمة وتشریع قوانین الزكاة والحج ذات العلاقة بالمجتمع، لأنه رغم وقوفه علی أصول الشریعة وقواعدها عبر التفكر والاعتبار، إلا أنه لم یكن علی معرفة بقضایا الحیاة الاجتماعیة ولم یتمكن من الوصول إلیها عبر الحس والعیان، ولا علم له بوجوب حفظ السنة والشریعة، وضرورة وضع القوانین الخاصة بالمعاملات. وعندما وصلا إلی تلك الجزیرة واندمجا بالناس أدركا أن حفظ ظاهر الشریعة واجتناب التأویل في العقائد والقوانين أمر ضروري لمصلحة المجتمع والناس. وحینما شاهدا أن الحیاة مع الناس لاتنسجم مع هدوء البال اللازم للریاضة والعبادة، عدا إلی الجزیرة الأولی وتوفیا فیها (زرینكوب، 130-131).
وموضوع قصة حي بن یقظان من أهم القضایا والمباحث التي واجهتما البشریة حتی الیوم. ویری بعض المفكرین أنّ هدف ابن طفیل من هذه القصة إثبات خلود النفس الناطقة للإنسان التي تعلّقت – وللأسف – بعض الوقت بالجسد المادي، واستخدمت القوی الجسدیة كوسیلة للوصول إلی مراحل الكمال، وانتقالها آخر المطاف من هذا العالم المادي إلی عالم آخر، وتحویل كل ما لدیها من حد القوة إلی حد الفعل (ظ: غالب، 10-11). فیما یری آخرون أن ابن طفیل أراد أن یعرض بدء خلق الإنسان ویقدّم نظریتین في هذا المجال معقولتین من منظاره الفكري. وهناك من فكروا بشكل آخر وقالوا: إن ما جاء في هذه القصة إنما هو استعراض لغربة الإنسان ووحدته، ویؤكد علی وجهة النظر هذه أولئك الذین قارنوا رسالة حي بن یقظان بتدبیر المتوحد لابن باجة (كربن، 296). والرأي الآخر هو أن ابن طفیل أولی أهمیة للعلاقة بین الفرد والمجتمع ووصل إلی هذه النتیجة وهي أن الفرد منشأ الجماعة (البیومي، 1/633).
ویری فریق من المفكرین أن أیاً من هذه الأمور التي أشرنا إلیها لم یكن هدف هذه القصة، بل أن الهدف الرئیس هو حصول المعرفة، وإن بإمكان الإنسان أن یصل إلی إدراك الحقائق ولو كان قد نشأ في عزلة تامة بعیداً عن أي بیئة فكریة وثقافیة (غلّاب، 1/343). وهناك رأي آخر یقول بأن الهدف هو الجمع بین العقل والدين أو الفلسفة والشریعة، وتوجد آراء أخری لایتسع المجال لذكرها. ولابد من الإشارة إلی أن الكثیر مما ذُكر من الآراء لایتنافی بعضه مع بعض، ویمكن استنباط كل تلك الآراء من هذه القصة.
ومما سبق نری أن ابن طفیل قرر منشأ الإنسان بروایتین: ففي إحداهما فرضه قطعة من الطین المخمّر المؤهَّل لأن تُخلق منه أعضاء الإنسان. ونظراً لوجود رأي معارض لهذا الرأي یقول بوجوب ولادة الإنسان من أبوین، فقد أورد روایة أخری تنسجم مع الرأي. ومن هنا یمكن أن نفهم أن هدف ابن طفیل من هذه القصة لم یكن بیان بدء خلق الإنسان، لأن حي بن یقظان – وطبقاً للروایة الثانیة – له أب وأم كأي إنسان آخر، مع فارق هو أنه قد انفصل عن أبویه بعد ولادته مباشرة وعاش وحیداً.
ولایمكن أن یكون الهدف الرئیس من هذه القصة هو بحث العلاقة بین الفرد والمجتمع، وأن الفرد منشأ المجتمع. ففي الوقت الذي كان حي بن یقظان یعیش وحیداً في جزیرة نائیة غیر مسكونة، كان هناك في الجزیرة المقابلة مجتمع افترض أن أفراده متحضرون ویتمتعون بالقوانین والأنظمة الضروریة للحیاة الاجتماعیة. كما أن مسألة خلود النفس وغربه الإنسان، من الأمور التي لایمكن التحدث فیها دون اتخاذ موقف صحیح في باب المعرفة وطریقة الإدراك. ولهذا یجب البحث عن الهدف النهائي والقصد الحقیقي من هذه القصة في باب المعرفة وطریقة الإدراك الإنساني. فعندما تقترب مسألة المعرفة وطریقة الإدراك من الحل، سیجد الجمع بین العقل والدين أو الاتفاق بین الفلسفة والشریعة موقعه الخاص به.
وهناك موضوعات وقضایا مهمة أخری في هذه القصي یمكن أن تعدّ من ضروریات المعرفة وشؤون الإدراك. فمثلاً: تقلید الأصوات (ص 33)، وظهور اللغة، وتوفیر الملبس والمسكن (ص 44) تعدّ من بین القضایا التي تقدم علی نظریة المعرفة وأسلوب الإدراك. كما یقع ضمن هذه المسائل أیضاً إعداد وسائل الدفاع، والإفادة من الحیوانات الأهلیة (ص 45)، واكتشاف النار (ص 41)، وطبخ الطعام (ص 42). والمسائل المذكورة ذات أهمیة كبیرة ویشكل كل منها دورة من أدوار التاریخ الإنساني الطافح بالأحداث.
وقد تركت رسالة حي بن یقظان رغم قصرها تأثیراً كبیراً علی الأجیال اللاحقة سیما علی العالم الغربي، حتی عرفت بوصفها واحدة من أبرز التصانیف في القرون الوسطی، تُرجمت إلی العبریة واللاتینیة والإنجلیزیة والفرنسیة والإسبانیة والهولندیة والألمانیة والروسیة والفارسیة والأوردیة، وطبعت مراراً؛ ولم یتوقف الاهتمام بها عالمیاً حتی یومنا هذا.
ویعد لایبنیتس أحد المهتمین برسالة حي بن یقظان في العالم الغربي. وقد عثر هذا الفیلسوف علی هذا الرسالة عن طریق ترجمة بوكوك، وفشغف بها بعد مطالعتها والتدقیق في محتواها (بدوي، 1/75). وهذه القصة أشبه بمرآة استطاع لایبنیتس أن یری فیها صورة أفكاره الفلسفیة، ولایبنیتس فیلسوف یولي أهمیة كبیرة للعقل والأصالة، ویری في العقل القدرة علی إدراك الحقائق، وهو بهذا یلتقي بابن طفیل. وقد طرح مبدأ «الجهة الكافیة» وأكد علیه كثیراً. كما یمكن أن یُفسّر اهتمام حي بن یقظان بطبیعة الأمور وانفراده في إدراك الحقائق بمبدأ «الجهة الكافیة» أیضاً.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode