اِبْنُ شَدّاد، أبو عبد الله عز الدین محمد بن علي بن إبراهیم بن شداد الأنصاري الحلبي (ذو الحجة ۶۱۳- صفر ۶۸۴هـ/ ۱۲۱۷-۱۲۸۵م)، منشئ ووزیر ومؤرخ في أیام الأیوبیین والممالیك. لانعرف الكثیر عن صباه ونشأته. تولع بالإنشاء والكتابة منذ سني شبابه الأولی. وكان أول منصب شغله هو الإشراف علی جبایة الضرائب في حران، حیث عینه في ذلك السلطان صلاح الدین یوسف في ۶۴۰هـ، ثم تقرب من بلاط الملك الناصر الأیوبي سلطان دمشق، فبعثه في ۶۵۷هـ رسولاً إلی التتر النازلین علی میّافارقین، لكنه فشل في مهمته، فاضطر الملك الناصر إلی إرفاقه بحریمه وأولاده إلی حلب لیكونوا في مأمن من الغزو. وترامت إلیه هناك أخبار مهاجمة التتر لشمال العراق وقیامهم بأعمال القتل والنهب. وعندما اقتربوا من حلب فرّ ابن شداد مع أهلها منها والتجأ إلی مصر، حیث أصبح في كنف الملك الظاهر بیبرس والملك المنصور قلاوون، وحظي لدیهما بالمال والجاه والمقام حتی عُرف بـ «المولی الصاحب المشیر الرئیس» (الدهان، ۲۳؛ كراتشكوفسكي، ۱/۳۶۹؛ ابن شاكر، ۴۱۴). وكان عنده بِشر كثیر ومسارعة إلی قضاء حوائج من یقصده (الصفدي، ۲/۴)، ولهذا ذكرته مصادرنا بخیر (الیافعي، ۴/۲۰۱؛ ابن الفرات، ۸/۳۳).
صحب ابن شداد في ۶۷۶هـ الملك الظاهر في سفره إلی دمشق، ولما توفي الملك في هذا العام قرّبه إلیه ابنه الملك السعید. وسعی أولاده أیضاً في إرضائه وإكرامه وأفادوا من علمه وحكمته وتجربته (ظ: الدهان، ن.ص).
وقیل إن الذي دفعه إلی التصنیف في التاریخ والجغرافیة أحداث زمانه المتتابعة، وهجوم التتر من الشرق، والصلیبیین من الغرب وأهوال الأیام التي مرّت بالممالك الإسلامیة ومشاهدته الأحداث المریرة وزوال المدن لتكون دروساً وعبراً وعظة للآخرین. وأكبر باعث منحه القدرة علی إنجاز هذا العمل هو موقعه من الأمراء والسلاطین واتصاله بهم ومهماته السیاسیة التي نهض بها ووقوفه علی شؤون البلاد وخفایا الأمور وما أحاط الوطن الإسلامي من أحداث (البستاني، ۳/۲۵۵). وقد أغنی آثاره اطلاعه علی القضایا الاجتماعیة والحقائق الاقتصادیة والأحداث العسكریة والحربیة. ومن جهة أخری فقد أدی تضلعه من الأدب العربي واللغة العربیة إلی أن یشبه أسلوبه في الكتابة أسالیب المترسلین في القرنین ۵ و۶ هـ/ ۱۱ و۱۲م، ففیه الصناعات الأدبیة والبدیعیة، وهو متأثر – عدا ما في التفاصیل– بأسلوب ابن العدیم ابن عساكر، وإن كان متأثراً في الفكر والحیاة ببهاء الدین ابن حنا (عبّارة، ۳(۱)/۲۵-۲۶؛ الدهان، ۱۶). وفضلاً عن علم التاریخ فقد كان علی معرفة أیضاً بدواوین الشعراء ونقل الكثیر من أشعارهم في آثاره وبهذا أنقذها من الضیاع.
آثاره
انصرف ابن شداد بعد إقامته في مصر إلی التألیف وصنف عدة كتب ضاع بعضها، فیما تم تحقیق وطبع البعض الآخر في السنوات الأخیرة. ورغم تثقفه بالعلوم القرآنیة والحدیث واللغة العربیة وعلومها وآدابها (عبّارة، ۳(۱)/۲۴-۲۵)، إلا أننا لم نعثر علی أيّ أثر له في هذه العلوم. وأهم مؤلفاته:
۱. الأعلاق الخطیرة في ذكر أمراء الشام والجزیرة، في ثلاثة أجزاء، ألّفه بین ۶۷۱ و۶۸۲هـ (EI2)؛ الجزء الأول، حلب، طُبع في دمشق عام ۱۹۵۳م مع مقدمة بالفرنسیة بتحقیق دومینیك سوردل، ثم في بیروت عام ۱۹۵۷م؛ الجزء الثاني، تاریخ مدینة دمشق، ویتألف من قسمین طبع بدمشق، عام ۱۳۷۷هـ/۱۹۵۶م بتحقیق سامي الدهان؛ الجزء الثالث، الجزیرة، ویتألف من قسمین، طبع بدمشق عام ۱۹۷۸م بتحقیق یحیی عبّارة. وكتاب الأعلاق الخطیرة، أو الحظیرة كما أورده بروكلمان (GAL, I/634)، لیس من أهم كتب ابن شداد فحسب، بل من أهم مراجع تاریخ وجغرافیة بلاد الإسلام الشمالیة في القرن ۷هـ/ ۱۳م. وهذا الكتاب وخلافاً لتسمیته لایقتصر علی تاریخ أمراء منطقتي الجزیرة والشام فحسب، بل یضم قضایا تاریخیة وجغرافیة عدیدة لاتخص الأمراء (كراتشكوفسكي، ۱/۳۷۰).
۲. جنی الجنتین في أخبار الدولتین، أشار إلیه ابن شداد في الأعلاق الخطیرة (ط ۱۹۷۷۸م، ۳(۲)/۴۵۹) وذكر فيه السلطان جلال الدین أیضاً.
۳. الروض الزاهر في سیرة الملك الظاهر. أشار إلیه ابن شداد في الأعلاق (ط ۱۹۷۸م،۳(۱)/۱۲۳)، وذكر أنه رتبه علی السنین. ألفه في زمان المكل الظاهر أي قبل عام ۶۷۶هـ، توجد نسخة منه بخط المؤلف في مكتبة مدینة أدرنة (الدهان، ۸-۱۹).
۴. القرعة الشدادیة الحمیریة، أو تحفة الزمن في طُرَف أهل الیمن. ویذكر بروكلمان (GAL، ن.ص) أن نسخة منه توجد في الهند (قا: مولوي عبد الحمید، ۱/۱۹۰). وقد دفع هذا العنوان بعض المؤلفین للاعتقاد بأن أصل قبیلة بني شداد من الیمن (الدهان، ن.ص).
۵. سیرة الملك الظاهر بیبرس، توجد مخطوطة منه في حلب (ظ: كمال، ۱۲۹؛ عمر، ۸۱).
۶. برق الشام في محاسن إقلیم الشام، وقد أشار إلیه بروكلمان (GAL, S, I/883؛ أیضاً ظ: ورهوفه، ۴۳).
۷. كروم التهاني لتفسیر السبع المثاني (البغدادي، إیضاح، ۲/۳۵۲).
۸. الدرة الخطیرة في أسماء الشام والجزیرة (م.ن، هدیة، ۲/۱۳۴).
وهناك قلة نقلوا عن ابن شداد، فأخذ عنه أبو الفضل محمد ابن الشحنة في بعض مواضع من الدر المنتخب في تاریخ مملكة حلب (ص ۱۵، ۱۶، ۱۸، مخـ). وأكد فرانز روزنثال أن ابن الشحنة صنف الدر المنتخب اعتماداً علی بعض ما جاء في كتاب ابن شداد وسائر مؤرخي حلب (ص ۲۳۴). ویقول ابن الشحنة نفسه بعد بیان سبب تألیفه لكتابه: رأیت الإمام العلامة أبا عبد الله ابن شداد ألّف كتاباً سمّاه… ومن أجل ذلك أحببت أن أذیل علی تاریخ ابن العدیم ذیلاً مختصراً ومفیداً… وتبعت ابن شداد في غالب أبوابه (ص ۷، ۱۲). ونقل النعیمي في مواضع كثیرة عن ابن شداد في كتابه الدارس في تاریخ المدارس (۱/۱۵۲، ۱۵۸، ۱۶۷، مخـ). كما نقل ابن طولون مرتین عنه في القلائد الجوهریة في تاریخ الصالحیة (۱/۲۵۰، ۳۶۸).
والسبب الذي دفع بالمؤلفین المتأخرین إلی عدم الاهتمام بآثار ابن شداد هو الخلط بینه وبین بهاء الدین یوسف ابن شداد. ویبدو أن سبب ذلك الالتباس هو تشابه الاسمین – فكلاهما ابن شداد– ثم نشأتهما في حلب، واشتراكهما بالتألیف في السیر السلطانیة. وربما كان حاجي خلیفة أول من التبس علیه الأمر حینما نسب كتاب الأعلاق الخطیرة إلی ابن شداد یوسف بن رافع الحلبي (۱/۱۲۵)، ثم انتقل خطؤه إلی آثار المؤلفین الذین تلوه عرباً وأوروبیین حتی إنه لم یؤبه به تماماً ولم یُذكر في أي مكان كما یجب (الدهان، ۱۳-۱۴)، إلا أن المؤلفین التالین لهم میزوا بین الاثنین وصححوا ما وقع من خطأ (كراتشكوفسكي، ۱/۳۶۹).
المصادر
ابن شاكر الكتبي، محمد، عیون التواریخ، ج ۹، النسخة المصورة الموجودة في مكتبة المركز؛ ابن الشحنة، محمد، الدر المنتخب في تاریخ مملكة حلب، تقـ: یوسف إلیان سركیس، بیروت، ۱۹۰۹م؛ ابن شداد، محمد، الأعلاق الخطیرة في ذكر أمراء الشام والجزیرة، قسم تاریخ مدینة دمشق، تقـ: سامي الدهان، دمشق، ۱۳۷۷هـ/ ۱۹۵۶م؛ ن.م، الجزء الثالث، تقـ: یحیی عبّارة، دمشق، ۱۹۷۸م؛ ابن طولون، محمد، القلائد الجوهریة في تاریخ الصالحیة، تقـ: محمد أحمد دهمان، دمشق، ۱۴۰۱هـ/۱۹۸۰م؛ ابن الفرات، محمد، تاریخ، تقـ: قسطنطین زریق ونجلا عز الدین، بیروت، ۱۹۳۹م؛ البستاني؛ البغدادي، إیضاح؛ م.ن، هدیة؛ حاجي خلیفة، كشف؛ الدهان، سامي، مقدمة الأعلاق الخطیرة (ظ: همـ، ابن شداد)؛ روزنثال، فرانز، علم التاریخ عند المسلمین، تجـ: صالح أحمد العلي، بغداد، ۱۹۶۳م؛ الصفدي، خلیل، الوافي بالوفیات، تقـ: هلموت ریتر، بیروت، ۱۳۸۱هـ/ ۱۹۶۱م؛ عبّارة، یحیی، مقدمة الأعلاق الخطیرة (ظ: همـ، ابن شداد)؛ عمر، محمد عزت، فهرس المخطوطات المصورة في مكتبة معهد التراث العلمي العربي، حلب، ۱۴۰۶هـ/ ۱۹۸۶م؛ كراتشكوفسكي، إغناطیوس، تاریخ الأدب الجغرافي العربي، تجـ: صلاح الدین عثمان هاشم، موسكو، ۱۹۵۷م؛ كمال، محمد، فهرس المخطوطات المودعة في خزانة معهد التراث العلمي العراقي، حلب، ۱۴۰۰ه/ ۱۹۸۰م؛ مولوي عبد الحمید، مفتاح الكنوز الخفیفة، بانته، ۱۹۱۸م؛ النعیمي، عبد القادر، الدارس في تاریخ المدارس، تقـ: جعفر الحسني، دمشق، ۱۳۶۷هـ/۱۹۴۸م؛ الیافعي، عبد الله، مرآة الجنان، بیروت، ۱۳۹۰هـ/ ۱۹۷۰م؛ وأیضاً:
EI2; GAL; GAL, S; Voorhoeve.
عبد المحمد روح بخشان/ ت.