إدریس
cgietitle
1443/3/1 ۱۰:۵۰:۱۸
https://cgie.org.ir/ar/article/237052
1446/9/3 ۲۰:۵۷:۳۸
نشرت
6
إدْرِیس، من الأنبیاء المذکورین في القرآن الکریم و الذيکان – استناداً إلی روایات – من سلالة شیث بن آدم و بعث للدعوة إلی التوحید في عصرٍ بین آدم و نوح. و قد تُصوّر أنه و أَخنوخ (خِنوخ) المذکور في العهدین شخص واحد. وعُدّ إدریس في إشارات قصیرة في القرآن صِدّیقاً من الأنبیاء (مریم/ 19/ 56). و ورد اسمه إلی جانب اثنین آخرین من الأنبیاء بوصفهم أسوات من «الصابرین» و «الصالحین» (الأنبیاء/ 21/ 86)، کما ورد أنه قد شملته الرحمة الإلهیة (ن.م/ 21/ 86) وأن الله منحه مکاناً علیّاً (مریم/ 19/ 57). وفضلاً عن هذه الأوصاف القرآنیة الموجزة، فإن شخصیة إدریس في الثقافة الإسلامیة قد تبلورت علی أساس روایات و حکایات یصل سندها أحیاناً إلی الشخصیات الدینیة الکبری، وربما امتزجت أیضاً بحکایات و أساطیر شتی الشعوب.
إن أسطورة علم إدریس (ظ: الأقسام التالیة من هذه المقالة) و خاصة صلة کلمة «إدریس» بـ «دَرَسَ» حدت بکثیر من اللغویین والمفسرین و المؤرخین الإسلامیین إلی أن یعتبروا تسمیة هذا النبي بإدریس، إنما هي بسبب کثرة دراسته و تدریسه (مثلاً ظ: ابن قتیبة، 13؛ البلاذري، 1/ 3؛ الجوهري، 2/ 927؛ ابن بابویه،معاني...، 1/ 45؛ ابن منظور، مادة «درس»)، إلا أن فریقاً آخر – التزاماً منه باستدلال نحوي – حکم علی أن کلمة إدریس غیر عربیة، ذلک أن هذه الکلمة التي علی وزن إفعیل في حال کونها عربیة لها سبب واحد فقط لأن نعتبرها ممنوعة من الصرف، ألا و هو العَلَمیّة، ولایمکن أن یکون السبب الآخر، سوی کون هذا الاسم أعجمیاً (الزمخشري، الکشاف، 2/ 513؛ القاموس، أیضاً تاج العروس، مادة «درس»؛ الطریحي، 4/ 70). کما أورد الجوالیقي في المعرّب (ص 13) إدریس في عداد الأنبیاء الذین أسماؤهم أعجمیة في اللغة العربیة؛ إلا أن البعض یعتقدون أن إدریس هو في الأصل اسم عربي لشخصیة أخنوخ (مثلاً ظ: الثعلبي، 49)، بینما ورد مصدر «حِنِخ» في العبریة بمعنی «التعلم» (قا: مصدر «درس») و «أخنوخ» لدی الیهود و النصاری هو المعلم ذوالعلم الغزیر (ظ: جفري، 51).
ومهما یکن، فإن کثیراًمن الباحثین و من أجل العثور علی أصل لکلمة إدریس التي لمیجدوا لها استخداماً في اللغة العربیة، قد أبدوا وجهات نظر بهذا الشأن: یعتبر کازانوفا (ص 358) أن أصل هذا الاسم هو نفسه کلمة«سدراسْ» المأخوذة من أصل «إزراس» (عزرا). وعدّ نولدکه في موضع – مع قوله بعدم کون هذه الکلمة عربیة – أن «ثیودوروس» هو منشأ هذا الاسم (ص 706—707)،بینما اعتبر في موضع آخر إدریس هو الشکل العربي لآندریاس (ظ: جفري، 52). کذلک وبالبحث في اللغة السریانیة و استخدام المسیحیین الفلسطینیین لکلمة إنریس، یکون احتمال تبادل حرفي «الدال» و «النون» لموقعیهما مدعاة للنظر (ن.ص).
وإن بعض الروایات ذات العلاقة بالحبشة بشکل ما، وبالشام في نفس الوقت، هي مرشد للعثور علی أصل کلمة إدریس و مادتها: أحدی هذه الروایات روایة مقاتل، المفسر المتقدم، حول هجرة بعض المسلمین الجدد من الحبةإلی المدینة و التي قدم بموجبها فریق من المسلمین الجدد إلی المدینة من الحبشة برفقة جعفر وأصحابه في سنة 6 هـ، و کان من بینهم ثمانیة من أصل شامي، أربعةمنهم یحملون أسماء: بحیرا، أبرهة، تمّام، إدریس (ظ: ابن الأثیر، أسد الغابة، 1/ 44؛ ابن حجر، الإصابة، 1/ 17؛ أیضاً ظ: نولدکه، 706).
کما ینبغي أن نشیر إلی روایة ابن إسحاق (ط القاهرة، 1/ 118) التي أشار فیها خلال حدیثه عن سفر النبي (ص) إلی الشام أیام صباه إلی لقائه أربعة رهبان مسیحیین هم بحیرا و زریر و تمام وإدریس و بشارتهم ببعثته (ص) (أیضاً ظ: نولدکه، ن.ص). والأسماء الثلاثة المشترکة في اروایتین تدل علی نصاری آمنوا بالنبي (ص)، مما یضطرنا مدار الحدیث في کلتا الروایتین عن الشام إلی وضعهما إلی جانب بعضهما (م.ن، 707).
ومن جهة أخریف فإن شجرة النسب الشامیة لأبي إدریس الخولاني قاضي دمشق (تـ 80هـ) تحظی بأهمیة لکون اسم جده إدریس (ظ: الذهبي، 4/ 272: عائذالله بن عبدالله (عیِّذ الله) بن إدریس)؛ وبطبیعة الحال، فإن خولان التي نشأ فیها أبو إدریس الخولاني کانت قبیلة من حمیرالیمن هاجرت إلی الشام و سکنت فیها (السمعاني، 2/ 419). لذا یمکن القبول بأن اسم إدریس کان مستخدماً في الیمن قبل ظهور الإسلام، أو علی الأقل تزامناً مع ظهوره.
ومهما یکن، فإن البحث عن تاریخ اسم إدریس في الثقافة السامیّة الجنوبیة (الحبشة – جنوب الجزیرة العربیة) لیس عبثاً، رغم أن جفري (ن.ص) في جهوده لمیکن لیتقبل بعدُ الأشباه الحبشیة التي عُثر علیها. وجدیر بالذکر أن أیا من النماذج المذکورة لمتطرح بشکل منفصل في أجواء الحبشة وبعیداً عن بیئة الشام.
وقد شاع هذا الاسم غیر العربي بین المسلمین تدریجیاً، إلا أنه لمیشتهر علی الإطلاق اشتهار أسماء بقیة الأنبیاء مثل إسحاق و یعقوب. والأمر الملفت للنظر حول اختیار اسم إدریس هو مایبدو من أن میل العلویین و أنصارهم إلی هذا الاسم کان أکثر مما هو علیه لدی بقیة المسلمین (کنموذج، ظ: ابن حجر، لسان...، 1/ 332-335؛ الأردبیلي، 1/ 76-77).
نالت قصة حیاة إدریس – شأنه شأن بقیة الشخصیات القرآنیة – شرحاً وافیاً في المصادر الروائیة والتفسیریة و ارتبطت بقصص الأنبیاء الذین سبقوه والذین تلوه. وکون إشارات القرآن إلیه عابرة، والمعلومات عن هذا النبي قلیلة، إلی جانب القالب اللغوي لکلمة إدریس، یجعل احتمال کون هذا الاسم لقباً لنبي باسم آخر وارداً، وقاد الباحثین نحو تکوین شخصیة له و سدب الثغرات الموجودة في قصة حیاته بالاستعانة بالمصادر المختلفة وربطها بقصة حیاة البعض الآخر من الشخصیات الدینیة مثل أخنوخ و إلیاس و هرمس.
وإن ماورد عن حیاة إدریس في المصادر المتنوعة متأثر بشکل کبیر بالروایات التي أوردها المفسرون في تفسیر آیة «ورفعناه مکاناً علیاً» (مریم/ 19/ 57). وفي بعض هذه الروایات لمیرد ذکر لبقیة الشخصیات وتمتناول شخصیة إدریس فحسب. فاستناداً إلی إحدی هذه الروایات التي تشیر إلی مجالسة الملائکة للبشر (الزمخشري، ربیع...، 1/ 369-370) فإن إدریس الذي یجد طریقه إلی ملک الموت في السماء الرابعة بوساطة من الملک الموکَّل بالشمس، یطلب منه عمراً طویلاً من أجل أن یتوفر علی عبادة الله بشکل أکبر، إلا أن ملک الموت – و بأمر من الله – یقبض روحه بین السماء الرابعة والخامسة (القمي، 2/ 51-52؛ ظ: الکلیني، 3/ 257، الذي تحمل روایته نفس المضمون مع اختلاف في بدایة القصة و شکلها؛ أیضاً ظ: الطبري، تفسیر، 8/ 72؛ أبوالفتوح، 7/ 422؛ ابن کثیر، تفسیر ...، 4/ 465-466). وفي روایة أخری، فإنه بعد أن یقبض ملک الموت روح إدریس،یحییه الله تعالی مرة أخری؛ یأخذه ملک الموت إلی الجحیم أولاً و من ثم إلی الجنة، لکن إدریس لایغادر الجنة بعدها علی الإطلاق (أبوالفتوح، 7/ 422-423؛ للاطلاع علی بعض الروایات الأخی، ظ: القسم الخاص بأخنوخ في هذه المقالة).
ویر المفسرون أن آیة «ورفعناه ...» في سورة مریم تشیر إلی هذه الحکایة، إلا أننا لانصادف موضوعاً خاصاً بإدریس في تفسیر آیة «وإسماعیل و إدریس و ذا الکفل کل من الصابرین» (الأنبیاء/ 21/ 85). وربما کان السبب في ذلک هو أن اسمه ظل بعیداً عن النظر في ظل اسم ذي الکفل، و یری وُکر أنه هو الیسع نفسه مستنداً إلی مقارنة بین هذه الآیة والآیة 48 منسورة ص، وقوع اسمي إدریس والیسع بین اسمي إسماعیل وذي الکفل و تشابه الشکل الظاهري للآیتین مع أسلوب تناول الصفات المذکورة بشأن الیسع و ذي الکفل – الذي هو نفسه أیوب النبي بحسب اعتقاده – و إسماعیل في العهد القدیم مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود أصل لاسم إدریس (ص 259-260).
ومهما یکن، وفضلاً عن هذین الموضعین اللذین أشار فیهما القرآن الکریم بشکل صریح إلی اسم إدریس، فإن المفسرین انبروا للحدیث عن إدریس النبي خلال تفسیرهم الآیتین «و إن إلیاس لمن المرسلین» و «سلام علی إل یاسین» (الصافات/ 37/ 123، 130)، وکذلک آیة «إن هذا لفي الصحف الأولي» (الأعلی/ 87/ 18)، ذلک أن «الصحف الأولی» في الآیة الأخیرة في رأي المفسرین هي نفسها الصحف النازلة علی شیث وإدریس (المسعودي، إثبات ...، 17؛ للاطلاع علی إیضاحات بشأن آیات سورة الصافات، ظ: إدریس و إلیاس في هذه المقالة).
کما یحظی ذکر اسم إدریس في حدیث الإسراء الشهیر ، فاستناداً إلی روایة أنس بن مالک عن النبي (ص) و کذلک روایة أبي العالیة الریاحي التي یحتمل أنها عن أبي هریرة، فإن الرسول الکریم (ص) و بعد اجتیازه في لیلة المعراج السماوات الأولی وحتی الثالثة ولقائه بآدم و یحیی و عیسی و یوسف، التقی في السماء الرابعة إدریس، حیث إنه دعا النبي الأکرم (ص) بالأخ و النبي الصالح (أحمد بن حنبل، 3/ 148، 260؛ الترمذي، 5/ 316؛ الطبري، ن.م، 8/ 73). کما ورد في روایة أنس عن مالک بن صعصعة و روایة لأبي ذر، نفس المضمون مع استنتاج آخر (أحمد بن حنبل، 4/ 207، 209؛ البخاري، 4/ 77؛ مسلم، 1/ 74؛ أیضاً ظ: أحمد بن حنبل، 5/ 143، التي نقل فیها أنس بدلاً من أبي ذر، عن أبيّ بن کعب). وقد أثارت الروایة الأخیرة و تلقیب النبي (ص) بـ «الأخ» من قبل إدریس، نقاشاً بین المفسرین المتقدمین حول علاقة النسب بین إدریس و النبي (ص) (السهیلي، 1/ 79-80؛ ابن کثیر، البدایة ...، 1/ 92).
ومهما یکن، فإن هذه الأحادیث أیدت بشکل ما أقوال المفسرین بشأن الایة 57 من سورة مریم، والأکثر من ذلک، أنها أصبحت سبباً لتناول حکایات مختلفة تتمحور حول تواجد إدریس في بعض طبقات السماء (للاطلاع علی تواجده في طبقات السماء المختلفة، ظ: العرفان والفلسفة في هذه المقالة).
لاشک في أن أحد أجمل مظاهر شخصیة إدریس هي علمه واطلاعه علی شتی العلوم، وقد نسب استخدام الکثیر من المعارف البشریة لأول مرة إلی إدریس. وإن صیاغة شخصیة کهذه التي هي نتیجة تلاقح التصورات مع حقائق الحیاة مما یمکن العثور علیه في أغلب ثقافات الأمم (ظ: هوک، 14) و وجود شخصیة مثل إدریس، خاصة تقارب اسمه من کلمة «درس» مهّد الطریق لوجه تحیط به هالة من الخوارق، فقد ورد في الحکایات أن جبریل أنزل 30 صحیفة علی إدریس، فکتبها کلها و قرأها .وفي هذا ، فهو أول من کتب بالقلم وانبری للتدریس (وهب، 21-22؛ ابن قتیبة، 13؛ البلاذري، 1/ 3؛ ابن عبد البر، 31).
وتسترعي هذه الحکایة الاهتمام من ناحیتین: الأولی وجود وسیط سماوي للتعلم، والأخری ذکر اسم إدریس بوصفه أول کاتب. وهذا الخبر یذکّر بأسطورة في الثقافة الإیرانیة مفادها أن طهمورث و بعد أن أسر الشیاطین في معرکة ضاریة مع إله الشر، تعهد هؤلاء بتعلیمه فن الکتابة مقابل نیلهم حریتهم (ظ: الفردوسي، 1/ 37-38). کما ورد في الأساطیر البابلیة حول ظهور الخط، أن مارداً نصفه سمکة و نصفه الآخر إنسان، یتمتع بذکاء خارق، ظهر من البحر و علّم الناسَ الخطَّ و الفنَّ والعلم (همایون فرخ، 71). والشکلان الإیراني و البالبلي للأسطورة – شأنهما شأن الحکایة المذکورة عن إدریس آنفاً – فیهما إشارة إلی أول کاتب، وتتضمنان في نفس الوقت الجانب الاخر من الحکایة، أي وجود وسیط بین الإنسان و ماوراء الطبیعة. والأکثر من تعلّمه الخط فقد اعتبر إدریس أول شخص لبس الثیاب و علم الآخرین أیضاً الخیاطة (ابن قتیبة، ن.ص). والطریف هو أن الفردوسي أورد في حکایة هوشنک أنه وبدلاً من الثیاب التي کان الناس یُعدونها من ورق الأشجار (مما هو مذکور في مخطوطة أخری للشاهنامه)، استفاد من جلود الحیوانات (الفردوسي، 1/ 35، الهامش).
وفي الحکایات، نسب إلی إدریس حمل السلاح، واستخدام المیزان، و وضع أسس علم النجوم و الحساب و الرمل، و بناء المدن والأهرام أیضاً (ظ: ابن حبیب، عبدالملک، 36؛ فخرالدین الرازي، 21/ 233؛ البغوي، 3/ 199؛ أبوحیان، 6/ 198؛ الإدریسي، 98)، مما یمکن أن نجد نظائره، مثل استخدام «هوشنک» للحدید (الفردوسي، 1/ 34) وصناعة المعدات الحربیة (م.ن، 1/ 39) و وضع أسس علم الطب و بناء جمشید للبیوت و ممارسته للکیمیاء، في قصص إیران القدیمة (م.ن، 1/ 39، 40، 41). وقد وضعت مسؤولیة أداء هذه الددوار في الحکایات السومریة علی عاتق إنلیل (ظ: هوک، 32)، بینما بطل هذا المیدان في أساطیر المصریین هو أوزیریس الذي علمهم الزراعة و التعدین (م.ن، 88). و ربما کان هذا هو الذي جعل البعض یعتبر أوزیریس هو نفسه إدریس (ظ: قسم آراء و أخبار ... في هذه المقالة). و استناداً إلی تطابق إدریس مع أخنوخ، فالأمر الجدیر بالاهتمام هو أنه الشخص السابع من الذریة في شجرة نسب أخنوخ الممتدة إلی آدم و الواردة في العد القدیم والعهد الجدید (سفر التکوین، الإصحاح الخامس؛ رسالة یهوذا، العددان 14 و 15). وفي الأساطیر السومریة، فإن الملک السابع یتمتع بعلم و معرفة أوسع و هو أول شخص من البشر یمارس الکهانة (ظ: هوک، 177؛ عن اعتقاد الیهود یکون أخنوخ ملکاً، ظ: کلارک، I/ 66). ویوجد في الفلسفة والتصوف الإسلامي ما یشبه هذه الفکرة، یتمتع فیه بدیل الإقلیم الرابع (= إدریس) بسمات کهذه (ظ: قسم العرفان ... في هذه المقالة). و یمکن أن یکون في قصة علم إدریس وسعة اطلاعه دلالة علی التأثیرات التي ترکتها الثقافات الأجنبیة في روایات العصر الإسلامي. وفي نفس الوقت، فإن علاقة العرب بالإیرانیین و تأثرهم بثقافتهم یمکن أن یکون قابلاً للبحث حتی في فترة سبقت کثیراً ترجمات أمثال ابن المقفع، و ربما لایکون بعیداً عن الحقیقة القول بتأثیر الإیرانیات إلی جانب الإسرائیلیات في الروایات المتعلقة بعلم إدریس.
إن التشابه الکبیر بین إدریس في القصص الإسلامیة و بین أخنوخ في العهدین، یجعل الفصل بینهما أمراً مستحیلاً في بعض الأحیان. فتأثیر الحکایات و الروایات المختلفة و دخول الإسرائیلیات في هذه العلاقة، هو من القوة مایجعل الحدیث عن إدریس دون معرفة أخنوخ یبدو أمراً عسیراً.
و یمکن مقارنة ماذکرته کتب العهدین (سفر التکوین، 5: 22-24؛ الرسالة إلی العبرانیین، 11: 5) بشأن أخنوخ بما ذکره القرآن (اختفاؤه وانتقاله من قِبل الله قَبل الموت) في سورة مریم؛ کما أن إیمان أخنوخ ورضا الله عنه في العهدین (ن.ص) یشبه ماورد بحق إدریس في سورة الأنبیاء. ومهما یکن، فإن الاعتقاد السائد غالباً هو أن أخنوخ هو الاسم السریاني، أو العبري، و إدریس هو الاسم العربي لشخصیة واحدة، رغم أنه یوجد جدل کثیر حتی حول کون اسم إدریس عربیاً. وعلی أیة حال، فإن الروایات المنقولة عن أمثال وهب بن منبه و أبي ذر والتي أوردت إدریس – شریطة کونه هو نفسه أخنوخ – في عداد الأنبیاء العبرانیین (أو السریانیین) تدعم هذا الرأي (ظ: الطبري، تاریخ، 1/ 174؛ المقدسي، 3/ 1؛ ابن بابویه، الخصال، 524).
وفي المصادر العربیة، فإن شجرة نسب أخنوخ هي نفسها المعروفة والمذکورة في سفر التکوین (ن.ص)؛ أي أخنوخ بن یارد بن مهلائیل بن قینان (الکلبي، نسب ...، 2/ 549؛ ابن إسحاق، ط قونیة، 1؛ ابن هشام، 1/ 3؛ للاطلاع علی الاختلافات في نسبه، ظ: الحاکم، 2/ 549)، و هي نفسها شجرة النسب التي یوصَل نسب رسول الله (ص) إلیها (ظ: ابن إسحاق، ابن هشام، ن.صص). ومایظهر جلیاً تأثیر العهد القدیم في مشجّرات النسب هذه وما یمکن أن یکون أکثر الأدلة رصانة علی دخول الأنساب الیهودیة في شجرة النسب هذه، هو النسب الذي یعرضه محمد ابن حبیب، فقد خلط بین أخنوخ بن بارد و أخنوخ آخر في العهد القدیم، أي أخنوخ بن قاین (ظ: ص 466؛ قا: سفر التکوین، 4: 17).
وبشأن أخنوخ، فقد وردت آراء مختلفة، فالبعض یقول إنه کان یعیش في بلاد الصین، ثم ذهب إلی سرندیب بالهند، و هناک نال کنزاً من العلم (ظ: «رسالة قبس...»، 239؛ أیضاً قا: مجمل التواریخ، 184). ویقول البعض الآخر إن عبادة الأصنام کانت قد شاعت کثیراً علی عهد یارد، وکان الناس یعبدون أصناماً مثل وَدّ وسُواع و یَغوث و یَعوق و نَسر، ولهذا بعث الله إدریس نبیاً لیدعو الناس إلی التوحید (الکلبي، الأصنام، 51-52، نسب، ن.ص؛ یاقوت، 4/ 913-914). وبولادة إدریس (ظ: الهروي، 16، حیث ذکر مسقط رأسه أیضاً) الذي حددت لها أیضاً تواریخ معینة (ظ: الطبري، ن.م، 1/ 173؛ المسعودي، أخبار ...، 77؛ ابن کثیر، البدایة، 1/ 92)، ضعفت عبادة القابیلیین للأصنام و دمر بعض أصنامهم أیضاً، لذلک، ظهر إبلیس بوجه نیِّر لـ «یمحویل» الملک آنذاک، فأخبره أن السبب في هذه الحوادث هو ولادة ابن لمهلائیل، فأصدر الملک أمراً بقتل ذلک الطفل، إلا أن الله وکّل بإدریس ملائکة یحمونه من جیش إبلیس (المسعودي، ن.م، 78). وبذلک أصبح هو في عداد عبّادالله، و أخیراً بُعث نبیاً. وقیل إنه أول من بُعث نبیاً بعد آدم، و کان خلیفة آدم في النبوة (المقدسي، 3/ 11).
وبحسب روایة المصادر الإسلامیة، فإنه تزوج و هو في الخامسة والسنین من هدانة (أدانة) ابنة باویل بن محویل بن خنوخ بن قین (الطبري، ن.م، 1/ 176؛ ابن الأثیر، الکامل، 1/ 62)، و رزق في نفس السنة بولد اسمه متوشلخ، وقد عاش إدریس بعد ذلک 300 سنة، وصعد إلی السماء عندما بلغ من العمر 365 سنة (الطبري، ن.ص؛ الیعقوبي، 1/ 11؛ ابن قتیبة، 13؛ البلغمي، 1/ 111). وهذا الشطر من حیاته هو بأجمعه مما ورد في العهد القدیم (سفر التکوین، 5: 21-23). و واضح تماماً أن أخنوخ اختلط بإدریس في البدء، ثم ظهر إدریس في قالب أخنوخ (للاطلاع علی تفاصیل أخری، ظ: الطبري، تاریخ، 1/ 177؛ الیعقوبي، ن.ص؛ یاقوت، 4/ 968؛ الدمشقي 33؛ أیضاً قا: العهد الجدید، رسالة یهوذا، العددان 14 و 15). ومن بعد ذلک فإن إدریس الذي اعتبر نفس أخنوخ، دخل عالم الأساطیر علی ید بعض الکتّاب (السورآبادي، 235؛ الجویري، 30-32؛ المقدسي، 3/ 12؛ الثعلبي، 49-50؛ البغوي، 3/ 199-200). وجدیر بالذکر، أن هذه الحکایات تصبو بأسرها إلی هدف واحد و هو تبیان مضمون الآیة 57 من سورة مریم. وإحدی الحکایات الملفتة للنظر هي رحلة المکاشفة التي قام بها إدریس إلی السماء و یمکن أن نجد في هذه الحکایة أیضاً آثار علاقة المسلمین بالیهود و تأثر الیهود العمیق بأفکار الإیرانیین. و ربما کانت أقدم رحلة للمکاشفة ظل ذکرها حیاً هي رحلة زرادشت الذي هرع بصحبة بهمن (= و هو من) نحو جنبة جنان أهورا مزدا و جاب الآفاق (ظ: «دینکرد»، 86، 87 ومابعدها؛ زندبهمن یسن، 3 و مابعدها؛ «زراتشت نامه»، 179). وفضلاً عن زرادشت فإن مکاشفة أرداویراف (= أرداویراز) في سفره إلی الجحیم والجنة نموذج إیراني آخر و متأخر طبعاً لهذا النوع من المکاشفة (أرداویرافنامه، 46، 48، مخـ).
وتلاحظ مضامین کهذه أیضاً في الآداب الأبوکریفیة (الأسفار غیر القانونیة) الیهودیة. و قد قُدّم شرح لواحدة من هذه المکاشفات في سفر أخنوخ (ظ: قسم صحف إدریس – أخنوخ في هذه المقالة) الذي یعد من الکتب غیر القانونیة لدی الیهود، فقد ذهب أخنوخ لزیارة السماوات السبع و شاهد جهنم و الجنة و شجرة الحیاة ... (لمزید من الإیضاح، ظ: أخنوخ في العهدین، في هذه المقالة). و ترکت رحلات أخنوخ والمکاشفات التي حظي بها، تأثیراً کبیراً في البعض الآخر من الکتب غیر القانونیة للیهود، مما یمکن أن یکون «سفر صعود إشعیا» أبرز نماذجه (ظ: المراغي، 242-243، 248). وإن ما یلفت النظر في سِفر صعود إشعیا أکثر من أي شيء آخر، هو عروجه إلی السماوات السبع ولقاؤه بعض کبار الشخصیات الدینیة مثل هابیل و أخنوخ في السماء السابعة (م.ن، 244-245). وفضلاً عن رحلته التي أشیر إلیها، فإن أمراً آخر یلفت النظر في الحکایات الخاصة بإدریس و هو الطبقات السبع للجحیم. جدیر بالذکر، أن الاعتقاد بوجود سبع طبقات للجحیم هو من المعتقدات المتأخرة للیهود في فترة الآداب التلمودیة (ظ: کوهن، 380)، مما یلاحظ بین المسلمین أیضاً (مثلاً ظ: الغزالي، 4/ 531).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode