الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / إحیاء علوم الدین /

فهرس الموضوعات

إحیاء علوم الدین

إحیاء علوم الدین

تاریخ آخر التحدیث : 1443/2/19 ۱۷:۲۳:۱۶ تاریخ تألیف المقالة

وفي «کتاب ریاضة النفس» یقدم الغزالي باختصار نظریته الأخلاقیة في المعنی الحقیقي لحسن الخلق، و من ثم الأسلوب المفصل لتهذیب الأخلاق و الطریقة الصحیة لتربیة الأطفال و تهذیبهم، ثم أسالیب و مقدمات الدخول في السلوک الباطني و إبراز الذرادة. ولا تختلف نطریته الأخلاقیة کثیراً عن التراث الیوناني بهذا الشأن، رغم أنه لا یبدي في البحوث التالیة کثیر التزام بها: الخلق هو عبارة عن کیفیة راسخة في النفس، و کما أن حسن الوجه یتأتی من حسن جمیع أجزائه، فإن جمال الباطن هو الآخر منوط بجمال 4 أرکان: قوة العلم و قوة الغضب و قوة الشهوة و قوة العدل. و العدل قدرة تنفیذیة تبقي علی الشهوة و الغضب تحت إشارة العقل و الشرع و لیس فیها طرفا إفراط و تفریط، بل لها ضدٌّ واحد و هو الجور. أما الحکمة و الشجاعة و العفة اللواتي هن فضائل و هن الحد الوسط لقوی العقل و الغضب و الشهوة، تقابلها في الجانب الآخر رذیلتان. و لتدعیم الأمور المذکورة یستشهد الغزالي بالآیة 15 من سورة الحجرات (49) التي تتضمن – في رأیه – أمهات محاسن الأخلاق. و إن الإیمان الیقیني بالله و رسوله هو قوة الیقین التي هي ثمرة العقل و منتهی الحکمة و یعود الجهاد بالمال إلی ضبط قوة الشهوة، و الجهاد بالنفس إلی ضبط قوة الغضب (3/ 55).

وفي فصل آخر یتناول الغزالي علامات الإنسان الصالح و صاحب الخلق الحسن فیقول: أن یکون کثیر الحیاء، قلیل الأذی، کثیر الصلاح، صدوق اللسان، قلیل الکلامف کثیر العمل، قلیل الزلل، قلیل الفضول، براً وصولاً و قوراً صبوراً شکوراً رضیاً حلیماً رفیقاً عفیفاً شفیقاً، لا لعّاناً ولا سبّاباً ولا نمّاماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخیلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً؛ و یضیف: و أول ما یمتحن به حسن الخلق، الصبر علی الأذی و احتمال الجفاء، و من شکا من سوء خلق غیره دلّ ذلک علی سوء خلقه (3/ 70).

و أسالیب معالجة الرذائل هي لدی الغزالي بشکل عام اثنان: علمیة و عملیة. و العملي هو المعالجة بالضد (3/ 28). و رغم أنه یختلف بحسب اختلاف أحوال الناس إلا أن له أصلاً واحداً و هو أن یتخلی کل شخص عن کل مابه فرحه من أسباب الدنیا، فالذي یفرح بماله ینبغي أن ینفقه، والذي حظي بالقبول في منصب الخطابة و الوعظ، أو التدریس یجب أن یترکه (3/ 69)، و بشکل عام، فإنه ینبغي للإنسان أن یقارن نفسه في الحالة التي هو علیها في القبر، و أن لایأخذ مما لایوجد في القبر (اللباس و المسکن و الطعام و النکاح...) في هذه الدنیا، إلا بقدر الضرورة و إلا فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به و ألفه مما سیلحق الضرر بسعادته الأخروبة (3/ 67).

و أسلوب المعالجة بالضد یکون حیناً بإزالة السم بالدواء وفي حین آخر بإزالة السم بسم آخر. فمثلاً یلجأ أرباب الأحوال أحیاناً إلی تناول شراب حلال في کأس بلون الخمر لیظن الناس أنهم یشربون الخمر فیسقطون من أعین الناس و تُعالج رذیلة حبهم للجاه. و رغم أن صحة هذا العمل هي موضع شک من الناحیة الفقهیة، إلا أن «أرباب الأحوال ربما یعالجون أنفسهم أحیاناً بما لا یفتي به الفقیه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فیه، ثم یتدارکون مافرط منهم فیه من صورة التقصیر» (3/ 288). کذلک هو شأن البخیل الذي ینفق طلباً للشهرة ماله أمام الناس لیقال إنه کریم. و بهذا العمل یزیل عن نفسه خبث البخل و یحل خبث الریاء محله. و علیه بعد ذلک أن یتجه إلی الریاء و یعالجه. و علی هذا القیاس یمکن أحیاناً ضرب الشهوة بالغضب و ضرب الغضب بالشهوة في أحیان أخری، لکسر سَورتهما و رغونتهما لیزولا تدریجیاً (3/ 262).

غیر أن الأسلوب العلمي لمعالجة الرذائل هو أن یطلع الإنسان بشکل مفصل علی قبحها و عواقبها الدنیویة السیئة و عقوباتها الأخرویة، و أن یعتق نفسه تدریجیاً من شرور الرذائل و ذلک بإمعان في أقوال النبي (ص) و آثار العظماء و حکایات الصالحین. و لهذا السبب، أورد الغزالي في ربع المنجیات و المهکات حکایات عدیدة عن الصوفیة و السلف الصالح لیکشف عن أسلوب مشاربهم الأخلاقیة و یرغّب القارئ باتّباعهم.

ففي الغضب مثلاً ینبغي للشخص أن یتأمل أولاً في الأخبار المتعلقة بالحلم و کظم الغیظ؛ و أن یخاف ثانیاً من العقوبة الإلهیة؛ و أن یحذر ثالثاً من سوء عاقبة العداء و الانتقام، و أن یفکر بدنیاه حتی و إن لم یکن یخشی علی آخرته؛ و أن یفکر رابعاً بمدی قبح صورته حین یغضب و یصبح کالکلب الضاري و السبع العادي، و أن یخبر نفسه بإنصاف بین أن یتشبه بالکلاب و السباع و بین أن یتشبه بالعلماء و الأنبیاء؛ و أن یفکر خامساً ما الذي حدا به إلی الانتقام، فلعلها کانت دوافع شیطانیة؛ و أن یعلم سادساً أن غضبه من تعجبه من جریان الشيء علی وفق مراد الله لا علی وفق مراده، فکیف یقول مرادي أولی من مراد الله؟ (3/ 173–174). و علی هذا القیاس تتم المعالجة العلمیة و العملیة للحسد و الریاء و البخل و بقیة الرذائل التي وردت في ربع المهلکات.

و «کتاب ذم الدنیا» الذي هو الکتاب السادس من ربع المهلکات، ربما کان یوضح أکثر من أي نص آخر نظرة الغزالي الصوفیة و ثمرة عزلته وسلوکه الباطني: الدنیا عدوة لله و عدوة لأولیاء الله و عدوة لأعداء الله (3/ 201)؛ فهي، کالظل الذي یزول سریعاً و کالحلم المضطرب الذي یتصرم بسرعة، کامرأة تتزین للخُطّاب حتی إذا نکحتهم، ذبحتهم، و هي شبه عجوز متزینة تخدع الناس بطاهرها، کالحیة الناعمة الملمس القاتلة و کماء البحر الذي یزید عطش شاربه کلما ازداد شرباً منه (3/ 214–216). فکل من تنعّم في الدنیا ولو بسماع صوت من طائر، أو بالنظر إلی خضرة، أو شربة ماء بارد فإنه ینقص من حظه في الآخرة أضعافه (3/ 221). فإن کان القصد حَظّ النفس فهو من الدنیا ولا یکون عملاً أخرویاً إلا عندما یقصد الإنسان من طعامه و لباسه و نکاحه و أمثال ذلک إلی أن یقوی علی طاعة الله. إذن فالمعیار في کون العمل دنیویاً، أو أخرویاً هو قصد الإنسان. فالعمل بقصد حظ النفس العاجل، هو علی وجه الیقین عمل دنیوي و من صنف الهوی الذي وضع الله الجنةً رهناً بالتخلي عنه (ن. ص). و مع کل ذلک لا ینبغي للإنسان أن یترک الدنیا کلیةً ولا یقمع الشهوة و الغضب تماماً، بل ینبغي تهدئة البدن و إعطاؤه حاجته لئلا یشغل القلب، حتی إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل علی الله و اشتغل بالذکر و الفکر طولَ العمر (3/ 230). فالکمیة الضخمة من الأخبار و الآثار و الأمثال التي أوردها الغزالي في باب الدنیا و ذمّها في هذا الکتاب تدل علی زهده و تقشفه و نفوره و تألمه من الدنیا التي هي شر مایضایق الإنسان. فینبغي الانعتاق منها بحسن السیاسة و التأدیب و الاقتصار علی الضرورة و الحاجة، وفي نفس الوقت لا ینبغي أن یقلق بشأن اضطراب الأمور. ولا ینبغي التصور أن الدعوات إلی الزهد تمنع الناس من الطمع و الطلب، ذلک أن مدار العالم قائم علی الغفلة، و أن بني البشر لا یتخلون عن التفاخر و التکاثر، ولذا فإن رحی العالم تصبح بلا توقف، أو تعطیل بماء غفلة أهلها و بالتقدیر الأزلي السابق، و إن زهد الزهاد لا یحدّ من حرکتها. و هذا التصویر للدنیا یساعد الغزالي علی أن یشحذ همته للقضاء علمیاً علی بعض الرذائل. فمثلاً في مسألة التکبر، لو أن الإنسان علم بذله و عجزه حقیقة و اعترف بکونه عبداً و مملوکاً و میتاً و صدّقه، و کذلک إذا عرف أنه لیس سوی سجین ذلیل و مذنب في هذه الدنیا، أفتری أنه یتکبر علی مَن في السجن؟ (3/ 360). و بحث الغزالي العملي في هذا الکتاب بشأن کیفیة ظهور الحیاة الاجتماعیة و ظهور الحِرَف و انفصال المدن عن القری و ظهور الحاجة للنقود و القانون و الفقیه و السلطان و الضرائب، هو بدوره من البحوث الجدیرة بالقرءة و إنعام النظر، و توضح سعة أفق الغزالي و عمق تفکیره بشأن الدنیا.

و آفات اللسان العشرون الواردة في «کتاب آفات اللسان» هي الأخری من بحوث إحیاء علوم‌الدین الجذّابة و المثیرة للجدل أحیاناً. فالتفوّة بالهراء و المراء و الجدال و الکلام النابي و البذيء و اللعن و المزاح و الاستهزاء و الغیبة و الکذب و النمیمة و فضح الأسرار و التملق و المدیح و سؤال العوام عن صفات البارئ و کلامه، کلها من آفات اللسان، و کما قال النبي (ص): لا یستقیم إیمان العبد حتی یستقیم قلبه ولا یستقیم قلبه حتی یستقیم لسانه (3/ 109). لذا لا ینبغي إقحام النفس في أمور باطلة ولا ینبغي الإکثار من الکلام، و یجب اتقاء الکلام الباطل، ولا ینبغي نقد کلام الآخرین بتکبر ولا السب و الشتم، و ینبغي استخدام الکنایة في بعض الأمور و تجنب لعن المسلمین حتی لو کان یزید، ذلک أنه لم یثبت صدور الأمور و تجنب لعن المسلمین حتی لو کان یزید، ذلک أنه لم یثبت صدور الأمر منه بقتل الحسین، «و یکتفی أن یقال: قاتلُ الحسین - أیّاً کان – إن مات قبل التوبة، لعنه الله» (3/ 122، 125). و کذلک لعن المسلمین حتی الظالم منهم، و کذلک قراءة الشعر القبیح، أو الإصغاء لقراءة الشعر، أو کثرة المزاح، أو أن یجاوز حده، و السؤال عن صفات البارئ و کلام الحق تعالی، ذلک أن «شأن العوام الاشتغال بالعبادات و الإیمان بما ورد به القرآن و التسلیم لما جاء به الرسل من غیر بحث» (3/ 126–127، 162–163).

و «کتاب ذم الغرور» الذي هو آخر کتاب من ربع المهکات، هو في الحقیقة شکوی الغزالي من باعة الدین و المغرورین في عصره، ممن تزیّوا بزي الفقهاء و الصوفیة و العلماء و العّباد، و أسروا قلوب الخلق و ابتعدوا - بقصد، أو بغیر قصد- عن قبلة الهدایة، و هؤلاء هم أربعة أصناف: الأول أهل العلم و النظر؛ الثاني أهل العمل و العبادة؛ الثالث الصوفیة؛ الرابع الأغنیاء.

فمن أهل العلم فرقة أحکموا العلوم الشرعیة و العقلیة و اشتغلوا بها، إلا أنهم و ضعوا العمل جانباً و اغتروا بعلمهم. و فرقة أخری أهل عمل و طاعة، لکنهم لا یهتمون بأحوال قلوبهم غافلین عن الریاء و الحسد و الکبر و حب الرئاسة مما یکمن في قلوبهم. و فرقة أخری علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم یظنون أنهم منفکّون عنها. و فرقة أخری بادروا إلی تهذیب بواطنهم أیضاً، لکن ماتزال في زوایا قلوبهم بعض مکائد الشیطان الخفیة، و هم غافلون عنها، لذا فهم یعملون الصالحات، لکن ربما کان دافعهم الخفي کسب الصیت الحسن، أو اجتماع المریدین حولهم. و اشتغلت فرقة أخری بالمجادلات الکلامیة و تصوروا الإیمان الصحیح رهین مجادلاتهم. بینما انشغل أهل فرقة أخری بالوعظ و التذکیر، و غرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم بعجبون بأنفسهم غایة الإعجاب. یصفون الزهد و هم هواة الدنیا؛ یخیفون الناس بالله و هم منه آمنین؛ یدعون الأنس بالله فمتی طابت لهم الخلوة؛ و فرقة أخری عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ و هم و عّآظ أهل هذا الزمان فاشتغلوا بالطامات و الشطح، فأکثر هممهم بالأسجاع و الستشهاد بأشعار الوصال و الفراق، و غیرضهم أن تکثر في مجالسهم الزعقات و التواجد، فهؤلاء شیاطین الإنس؛ و فرقة أخری قنعوا بحفظ کلام الزهاد (3/ 388 و ما بعدها). و فرقة أخری استغرقوا أوقاتهم في علم الحدیث، في سماعه و جمع الروایات الکثیرة و طلب الأسانید العالیة، بینما لا یعرفون حتی حقیقة سماع الحدیث (3/ 397)؛ و فرقة أخری اشتغلوا بعلم النحو و الشعر و اللغة و تصوروا أنفسهم علماء الأمة. و فرقة أخری عظم غرورهم في الفقه، فظنوا أن حکم العبد بینه و بین الله أن یتبع حکمه هو، فوضعوا الحیل «ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء لملأنا فیه مجلدات» (3/ 398–400).

أما أرباب العبادة و العمل، فمنهم أهملوا الفرائض و اشتغلوا بالنوافل؛ و فرقة غلبت علیهم الوسوسة اللامجدیة؛ فرقة اغتروا بقراءة القرآن، یختمون القرآن، في الیوم و اللیلة و هم لا یفقهون منه شیئاً؛ فرقة أخری اغتروا بالصوم، أو الحج، أو الحسبة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر، ینهون الخلق عن المنکر، لکنهم مبتلون به؛ و فرقة أخری جاوروا بمکة، أو المدینة ولم یراقبوا قلوبهم ولم یطهروا ظاهرهم؛ فرقة أخری زهدت في المال وقنعت من اللباس و الطعام بالدون، غیر أن قلوبهم راغبة الرئاسة و الجاه.

الصنف الثالث، المتصوفة الذین اغتر بعضهم بالزي الصوفي و نکسوا رؤوسهم کما یفعل المتصوفة و أدخلوها في جیوبهم، یتنفسون الصعداء و یخفضون أصواتهم لدی الکلام، وادعی بعضهم المعرفة و مشاهدة الحق، فهو ینظر إلی الفقهاء و العلماء و المفسرین بعین الازدراء؛ و بعضهم وقع في الإباحة، بینما نال آخرون مقامات وسطعت علیهم الأنوار، لکن من یقولون «أنا الحق» اعتبروا أنفسهم قد بلغوا المرتبة العلیا وعدّوا الظاهر و الباطن واحداً، و ذلکم هو نفسه الخطأ الذي ارتکبه النصاری بحق عیسی (3/ 400- 407).

الصنف الرابع، هم أرباب الأموال، ففرقة منهم یحرصون علی بناء المساجد و المدارس و الرباطات و الزوایا و یکتبون أسامیهم بالآجر علیها، بینما هو اکتسبوا أموالهم من النهب و الرشا و غیر ذلک؛ و فرقة أخری ربما اکتسبت المال من الحلال، لکنها ترائي في إنفاقه، و بزخرفتهم المساجد یفسدون قلوب المصلین؛ و فرقة أخری ینفقون علناً و یتجنبون الصدقة في السر؛ و فرقة أخری یکنزون أموالهم بدافع الحرص و یتجهون إلی عبادات لاتحتاج إلی إنفاق کالصلاة و ختم القرآن و الصوم و ما شاکل ذلک، و مع کل هذا فإن الإنسان الذي تمکن بشتی الحیل من صید الطیر المحلق في جوّ السماء، و الحیوانات المتوحشة في الصحاری، و یخرج الأسماک من أعماق البحار، بإمکانه أن یصید الغرور و یتلخص من فخّ الشیطان (3/ 407–410).

و یبدأ ربع المنجیات بکتاب «التوبة» المهم جداً، و فیه یورد الغزالي و بشکل معمق إیضاحات متمیزة فیما یتعلق بحقیقة الذنب و سرّ اعتبار بعض الأعمال ذنوباً و الفوارق بین الذنوب الکبیرة و الصغیرة و کذلک حقیقة التوبة و الطرق إلیها. و الأمر المهم هو أنه یأخذ بعین الاعتبار في أغلب هذه الإیضاحات المصالح الدنیویة و أهمیة الذنوب و دورها في الحیاة الاجتماعیة.

یقول إنه لا یُعقل أن یبعث الله نبیاً لإصلاح دین الخلق و دنیاهم ثم یأمرهم بأداء أعمال تحول دون معرفة الله و رسله، أو تؤدي إلی ضیاع الأموال و الأنفس، ولذا فإن الکفر و البدعة و قتل النفس و قطع الأعضاء واللواط و الزنا – التي هي مدعاة لقطع النسل و بطلان التوارث – و السرقة و أکل مال الیتیم و ماشابه ذلک، کلها من الکبائر، ذلک أنها بأسرها تؤدي إلی وقوع الخلل في الحیاة، و خاصة الذنوب المتعلقة بالأموال التي یتم ارتکابها في الخفاء و تصعب إقامة الدعوی علیهاو یؤدي اعتبارها کبیرة إلی احتراز الناس من الاقتراب إلیها، خلافاً لغصب المال و الخیانة في الأمانة و هما أمران واضحان یستطیع المدعي أن یسعی بنفسه إلی استیفاء حقوقه، و کذلک الربا الذي هو أکل مال الغیر بالتراضي، ولذا یمکن أن تأتي الشرائع بأحکام متباینة بشأن ولا تعده من الکبائر؛ أما شرب الخمر فلأنه یؤدي إلی إصفاء نور العقل، یجب أن یعدّ من الکابئر. و کذلک السحر المتضمن للکفر. أما تشویه سمعة الآخرین و اتهامهم بالزنا، فهو بشکل ربما کان حکمه مختلفاً باختلاف الشرائع، لذا فإن کونه من الکبائر أمر غیر قطعي، ذلک أن الشارع کان بإمکانه أن یحکم بإقامة الحد علی الزاني إذا شهد شخص عادل علی زناه، و إن لم یُقم الحد فلا شأن لهم بعدها بالشخص العادل، ذلک أن عدم إقامة الحد علی الشخص العادل الذي لم تقبل شهادته، لایؤدي إلی إیقاع ضرر بالمصالح الدنیویة (4/ 20–21). و علی هذا فالغزالي یعقلن الفقه و یحمل علی محمل الجد کونه دنیویاً، و یری أن عظم الذنب رهین بضخامة الضرر الذي یلحقه بالحیاة الاجتماعیة للبشر. هذا من جهة، و من جهة أخری فإن الذنوب الصغیرة إذا تکرر ارتکابها، أو عُدت صغیرة، تحولت إلی کبیرة، ذلک أن استصغارها هو استصغار لله. و لذا فقد قال أحد العارفین: «لا صغیرة، بل کل مخالفة فهي کبیرة» (4/ 32).

أما حقیقة التوبة فهي ندم علی الماضي یورث عزماً و قصداً علی أن لا یحوم الإنسان حول الذنوب (4/ 34)، لکن بابشکل التالي: لو أن شخصاً ممن ینظر إلی المحرمات، فَقَدَ بصره فهل بإمکانه أن یتوب عما نظر إلیه في الماضي، و هل أن عزمه علی عدم النظر في المستقبل شيء ممکن و ذو معنی؟ و فتوی الغزالي هي أن الأمر الرئیس هو نقاء القلب من ظلمة المعصیة و لذلک طریقان: أحدهما حرقة الندم علی الماضي، و الثاني شدة المجاهدة بالترک في المستقبل، لکن إذا کانت حرقة الندم شدیدة تستطیع أحیاناً أن تحل محل المجاهدة – التي لم تعد ممکنة الآن – و تمحو ظلمة المعصیة (4/ 41).

و رأي الغزالي في باب تذکر الذنب، أو نسیانه جدیر بالاستماع، فهو یسأل: فما قولک في تائبین أحدهما نسي الذنب ولم یشتغل بالتفکر فیه، و الآخر جعله نصب عینیه ولا یزال یتفکر فیه و یحترق ندماً علیه، فأیهما أفضل؟ و یقول في الجواب علی ذلک: بلغنا بهذا الشأن جوابان: الأول أن حقیقة التوبة هو أن تضع ذنبک نصبَ عینیک، و الثاني، أن حقیقة التوبة هي أن تنسی ذنبک. ثم یضیف: «و کلام المتصوفة أبداً یکون قاصراً، فإن عادة کل واحد منهم أن یخبر عن حال نفسه فقط ولا یهمه حال غیره» (4/ 42)، ثم یوضح ذلک قائلاً: الحق هو أن الأفضل للمبتدئین أن لا ینسوا ذنوبهم، بینما علی سالک الطریق أن لا یفکر، إلا بالسلوک، و إن النظر إلی الوراء یحول دون التقدم (ن. ص).

وفي «کتاب الصبر و الشکر» نصادف إشارات توضح دوافع الغزالي للعزلة: الصبر یعني القدرة علی تحمل الصعاب و التخلي عن الرغبات، ولذة الرئاسة و الغلبة و الاستعلاء، و الحظوة بالمحبة لدی الناس هي ألذ اللذائذ، لذا فإن التخلي عنها و الصبر علی ذلک، هو الآخر أصعب أنواع الصبر. و کل من أدرک حقیقة ملک الدنیا الفاني و نعیم الآخرة الخالد، فإن زهده في الدنیا سیکون أهون علیه. لکن من اعتاد علی الجاه و الرئاسة و أصبحت عاداتها و آدابها ملکة لدیه، و استقرت لذتها في قلبه، لا یکفي مجرد العلم و النظر لعلاجه؛ بل ینبغي أن یضیف العمل إلی ذلک، أي أن علیه أن یعمل في ثلاثة أمور: الأول، أن یهاجر و یهرب من موضع الجاه کي لا یشاهد أسبابه فیعسر علیه الصبر مع الأسباب، و من لم یفعل هذا، فقد کفر نعمة الله إذ قال تعالی «ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها» (النساء/ 4/ 97)؛ الثاني، أن یکلف نفسه في أعماله أفعالاً تخالف ما اعتاده، فیبدل التکلف بالتبذل وزي الحشمة بزي التواضع؛ الثالث، أن یراعي في ذلک التلطف و التدریج فلا ینتقل دفعة واحدة إلی الطرف الأقصی فإن الطبع نفور (4/ 79). و کان هذا بالضبط ماحدا بالغزالي إلی أن یهاجر لیهرب من فتنة و مغریات بغداد المسرات و مقر الخلافة، و یجد خلوة لتنقیة القلب من الجاه و الهوی.

و للصبر کما یری الغزالي بحسب متعلقاته مسمیات متنوعة: الصبر علی شهوة البطن و الفرج، عفة؛ و الصبر علی الغنی، ضبط للنفس؛ و الصبر علی الحرب، شجاعة؛ و الصبر في الغضب، حلم؛ و الصبر علی نکبات الدهر، سعة صدر؛ و الصبر في الکلام، کتمان السر؛ و الصبر علی الرفاهیة، زهد؛ و الصبر علی العیش ببساطة، قناعة. لذا فإن «أکثر أخلاق الإیمان داخل في الصبر» (4/ 67). و کما یلاحظ فإن التقسیم الیوناني لیس له منزلة تذکر في «الأخلاق الإیمانیة» للغزالي، و حتی العفة و الشجاعة اللتان هما من «الأجناس الأخلاقیة السامیة»، مندرجتان بدورهما تحت جنس الصبر. ویبدو أن الغزالي النتبه إلی هذه النقطة. لذا فقد أضاف استکمالاً للکلام المذکور آنفاً: «من یأخذ المعاني من الأسامي یظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتها و حقائقها، و الذي یسک الطریق المستقیم و ینظر بنور الله، یلحظ المعاني أولاً، ثم الأسامي؛ ذلک أن الأسلامي وضعت دالة علی المعاني و لیس العکس...، و إن الکفار لم یغلطوا فیما غلطوا فیه، إلا بمثل هذه الانعکاسات» (ن ص).

الصفحة 1 من5

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: