ابن تومرت
cgietitle
1443/5/14 ۱۳:۳۱:۱۱
https://cgie.org.ir/ar/article/232896
1446/9/4 ۰۴:۲۵:۱۴
نشرت
2
و بعد إتمام البیعة، قسم ابن تومرت الذي کان یسمی حتی ذلک الوقت بـ «الإمام» ثم بالمهدي، أصحابه إلی طبقات تبعاً لقدم صحبتهم و خدمتهم و مدی طاعتهم، مکانة قبیلتهم إلی غیر ذلک من الطبقات، سمی العشرة الأوائل و هم أول من بایعه و کانوا من المهاجرین الأول «أیت عشرة » یعني أهل عشرة. و هم الذین دعاهم ابن تومرت بـ «الجماعة» (البیذق، 32) و هم أشرف أصحابه و الموثوقون عنده (ابن الاثیر، 10/57).و أولهم و أقرب تلامیذه عبدالمومن بن علي من قبیلة قیس سلیم و یسمی «صاحب الوقت» (البیذق، 32-33) وقد خلف ابن تومرت بعد وفاته. و الطبقة الثانیة و تسمی «أیت خمسین» أي أهل خمسین (ابن الأثیر، ن. ص)، و تضم الرؤساء و القبائل المختلفة و لهذه الطبقة اسم آخر هو «المؤمنون»، و ذلک لاعتقاد ابن تومرت أنه لیس علی وجه الأرض من یؤمن إیمانهم و سیفتح الله بهم فارس و الروم و یقتل الدجال (المراکشي، 188). وکان ابن تومرت یشاورهم (ابن أبي زرع، 177). و سمی السبعین الذین بایعوه «أیت سبعین» أي أهل سبعین. و هذه الطبقات الثلاث، أخلص أصحابه و أقواهم. ثم قسم بقیة أصحابه تبعاً للمهنة أو الوظیفة، والعائلة و العشیرة إلی 12، وفي بعض الروایات إلی 14 طبقة، مثل: الطلبة و الحفّاظ و أهل هرغة و أهل جنفیسة و الغزاة و غیرهم. و وضع لکل طبقة مراتب، و کانت هذه الطبقات تابتة لاتتغیر و تتبع انضباطاً، و نظاماً خاصاً (الحلل، 109).وأطلق ابن تومرت علی جمیع أتباعه اسم «الموحدین» و هذا تعریض بقبائل لمتونة و الحکام المرابطین لمیلهم إلی التجسیم و عدولهم عن التأویل (ابن خلدون، 6(2)/471). و أوکل بالإضافة إلی ذلک بعض المسؤولیات لعدد من أصحابه الخاصین، منهم ابن البقّال، کاتب الرسائل، وأبو إبراهیم إسماعیل بن بسلّالي، و کان یقضي بین الناس عن إذنه، وأبو عمران موسی بن تماري، کان أمین الجماعة، و أبوعبدالله محمد بن سلیمان و کان إمام الجماعة (البیذق، 33). و بعد أن أخذ ابن تومرت البیعة سعی في السنوات التي تلتها و في کل فرصة مناسبة إلی تقویة روح الشهادة و الانقیاد و الطاعة العمیاء في أتباعه و تشجیعهم علی الجهاد ضد المرابطین و قد بلغ بهم في خطبه التي کان یلقیها علیهم داعیاً إیاهم للتمسک بالإیمان بالمهدي و الطاعة التامة لأوامره و اعتبار معارضة الإمام المعصوم معصی، حداً کان الحاضرون الجاهلون المفتونون به یبادرون لو أمروا إلی سل السیف و قتل الوالد أو الأخ أو الابن. و کان یهون علیهم سفک الدماء (المراکشي، 191-192). و بعد أن أرسی سلطته بین القبائل القریبة بعث بالرسل إلی المناطق النائیة للدعوة إلی إمامته و مهدویته بین العشائر الأخری، فوفد الناس علیه من کل صوب حتی استفحل أمره و علاصیته.
کان هدف ابن تومرت الأخیر من حشد القوی، هو مواجهة الحکومة القائمة مباشرة أي حکومة المرابطین. وقد فکر بعد أخذ البیعة من أنصاره بتجهیزهم لقتال علي بن یوسف. وکانت مملکة المرابطین قد بدأت منذ 514هـ/1120م بالتقهقر لظهور بعض الاضطرابات (ابن أبي دینار، 109-110) مما مهد السبیل لنشاطات ابن تومرت العدائیة. و تزامن دخوله جبال السوس، مع وقوع فتنة في قرطبة فاضطر الملک للتوجه إلیه لإخمادها . ولم یطل بقاؤه في قرطبة حتی سمع بتفاقم حرکة ابن تومرت في بلاد السوس، ولما عاد إلی مراکش فکر بإیقافه عند حده (عنان، عصر المرابطین، 178)؛ ولما وجد أن خطر ابن تومرت أشد مما یظن لم یکن أمامه سوی قتاله، جهز جیشاً بقیادة والي السوس، أبي بکر بن محمد اللمتوني، ولکنه لم یحقق نصراً، فأرسل جیشاً أکبر بقیادة أبي إسحاق إبراهیم فانهزم جیشه قبل القتال. و فُقد عدد کبیر منه، و احتل الموحدون مواضعهم (الحلل، 110). و کانت هذه مقدمة لانتصارات ابن تومرت التالیة، و یکتنف الغموض توالي و أبعاد بعض الاشتباکات التي حدثت بین ابن تومرت و خصومه و أماکنها، یظهر أن بعضها حدث قبل انتقال إلی داخل تینملل و بعضها بعده. ثم إن بعض هذه الاشتباکات التي عرفت بالغزوات، لم تکن سوی مناوشات مع بعض القبائل الموالیة للمرابطین (سالم، 2/779)، وقد أورد البیذق (ص 74-77) في کتابه شرحاً لـ 9 غزوات تحت عنوان غزوات ابن تومرت، و غزوة تحت عنوان غزاة البشیر. والحقیقة أن حرب البشیر التي کانت بقیادة محسن الونشریسي لابد أن تعتبر من حروب ابن تومرت نفسه فقد أصیب ابن تومرت في الغزوة السابقة منها بجراح في قتاله لقبیلة هسکورة، و من المؤکد حدث 7 غزوات ضد المرابطین الذین أطلق علیهم البیذق (ص 75-76) المُجَسمین والزراجتة و یبدو أن الغزوة التامنة کانت ضد المرابطین أیضاً. وهنا لابد من الإشارة إلی أن ما أورده البیذق عن هذه الغزوات لم یکن واضحاً و مفصلاً إلی حدما. و یبدو بالإضافة إلی ذلک أن حب البیذق لابن تومرت و علاقته به زاد من رغبته في أن یظهره منتصراً في کل الحروب، و لحن کلامه في الغزوة الأولی و الخامسة ینمان عن هزیمة الأعداء، بینما انتهت في روایة ابن القطان (ظ: عنان، عصر المرابطین، 180) بهزیمة أنصار ابن تومرت و مقتل الکثیرین منهم. و یظهر أن ابن تومرت قضی السنوات الواقعة بین 516 إلی 518 هـ في اشتباکات محلیة مع حلفاء المرابطین، وأرغم أکثرهم علی طاعته، حتی دانت له بلاد واسعة بجبال درن في السوس من تامبوت إلی ماغوصي و انتهاءَ بجنفیسة. و بذلک استطاع أن یبسط سلطته المطلقة علی منطقة السوس کلها (ن. ص). فقد قاتل کل قبیلة تخلفت من قبائل المصامدة عن الطاعة له مثل هزرجة و هسکورة، وأثخن فیها قتلاً و أسراً (ابن خلدون، 6(2)/470). بدأ لعلي ین یوسف أن حرکة ابن تومرت لیست فتنة محدودة بسیطة، وأن هذا الفقیه المرقّع الثیاب یضمر نوایا بعیدة وواسعة ستعم حوادثها مملکته کلها، ولابد من التفکیر بحل أساسي ومن جهة أخری، إن ماحققه ابن تومرت في البدایة من انتصارات محدودة، وازدیاد عدد أنصاره و أتباعه الفدائیین زاد من ثقته في النصر النهائي، فکتب رسالة شدیدة اللهجة و حاسمة إلی المرابطین وصفهم فیها بالقوم الذین غضب الله علیهم، و استذلهم الشیطان، و بالشرذمة الباغیة الطاغیة، و طلب منهم العودة إلی تقوی الله و السنة الإلهیة، و إلّا فإنه سیحاربهم بعون الله و بمحو آثارهم و دیارهم (الحلل، 111). و الحقیقة أن هذه الرسالة کانت بمثابة إعلان حرب علی المرابطین و قد توالت بعدها المجازر و سفک الدماء بین الفئتین المتنافستین لمتونة و الموحدین سنوات عدیدة.
من الحیل التي لجأ إلیها ابن تومرت للقضاء علی المعارضین و المنافقین من أتباعه، خطة تعرف بالمَیز أو التمییز. ورغم مایبدو من اختلاف في روایات المؤرخین حول سبب و ذریعة ابن تومرت في تنفیذه لهذه التصفیة، و تاریخها الدقیق، غیر أن الذي لاشک فیه أن السبب الأساس هو استئصاله الذین یتباطؤون و یترددون في تنفیذ خططه و لایرضخون لما یأمر به، بصورة عمیاء و عن طیب خاطر، و تذهب أکثر الروایات إلی أن خطة التمییز ترتبط بنتیجة أحد الاشتباکات بین الموحدین والمرابطین. ففي 517هـ بعث جیشاً لقتال المرابطین بقیادة عبدالمؤمن، وحدثت معرکة هزم فیها الموحدون، و حاصرهم الأعداء في تینملل، و یبدو أن الحصار طال و ضافت الأحوال و عم الجوع و جاوز الحد فبدا لبعض الأعیان في المدینة إصلاح الأمر مع أمیر المسلمین. و لما بلغ الإمام هذا الخبر، داخله الظن في طاعة بعض القبائل المحضة و تضحیتها، و فکر باستئصال شأفتهم (ابن الأثیر، 10/573، 575). و ذکر بعض المؤرخین أن المهدي حینما رأی هزیمة أتباعه أمام المرابطین، شک في عدد منهم و قرر قتل من بشک في أمره (الأمین، 1/255). و ربما کان یعتقد أن هذه الجماعة هي المسؤولة عن هزیمة أتباعه من جهة و اتخاذ قرار الصلح مع المرابطین من جهة أخری. ویقول ابن الوردي (2/44) بدون أي شرح أنه رأی في جموعه قوماً خالفوه فقرر قتلهم، و یروي ابن الأثیر (10/575) عن جماعة من فضلاء المغاربة أن ابن تومرت لما رأی کثرة أهل الشر و الفساد في أبناء الجبل، أحضر شیوخ القبائل وقال لهم: إنکم لایصح لکم دین إلا بالأمر بالمعروف و النهي عن المنکر و إخراج المفسد من بینکم، فابحثوا عمن لدیکم من أهل الشر و الفساد فانهوهم عن ذلک. فإن انتهوا فبها و الإفاکتبوا اسماءهم و ارفعها لأنظر في أمرهم، ففعلوا ذلک. و کتبوا له أسماءهم من کل قبیلة، ثم أمرهم بذلک مرة ثانیة و ثالثة. ثم جمع المکتبوات فأخذ منها ماتکرر من الأسماء فأثبتها عنده، و کانت هذه أسماء الذین ینبغي قتلهم. ثم یصف لنا مرید الإمام خادمه الوفي البیذق بعد روایته لتاسع غزوة قام بها الموحدون، موضوع المَیز هذا فیقول: أکرم الله المهدي فأمر بالمیز لإخراج المخالفین و المنافقین و الخبثاء من الموحدین حتی امتاز الخبیث من الطیب و رأی الناس الحق عیاناً (ص 78).وکان من المقرر أن یلعب الدور الأول في هذه التصفیة الدمویة أبو عبد الله الونشریسي، ویبدو أن الإمام کان قد أعده منذ مدة طویلة لمثل هذا الیوم. فقد کان الإمام یظهر احتراماً لهذا الرجل الذي کان بسیطاً في الظاهر، و یقول لمن حوله: إن لله سراً في هذا الرجل سوف یظهر. و کان قدحان الوقت للکشف عن هذا السر. و یبدو أن الونشریسي الذي کان في نظر الناس حتی ذلک الوقت أمیاً جاهلاً أبله ألکن لایعرف شیئاً من القرآن و العلم، یظهر فضائله فجأة و بإشارة من الإمام متفق علیها، فیقرأ القرآن قراءة حسنة. و یتظاهر الإمام أولاً بالتعجب وأنه لایعرفه، فیقول الونشریسي أنا أبو عبد الله الونشریسي، و یطلب المهدي منه أن یکشف عن أمره فیقول: «إنني أتاني اللیلة ملک من السماء فغسل قلبي و علمني الله القرآن و الموطّأ و غیره من العلوم و الأحادیث» و هنا یبکي المهدي أمام الناس و یمتحنه بسؤاله عن حفظ القرآن، فیقرأ قراءة حسنة من کل موضع سئل، و کذلک الموطّأ و غیره من کتب الفقه و الأصول، ویتعجب الناس لذلک و یستعظمونه. ثم یقول: إن الله أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار (ابن الأثیر، 10/574)، ثم یأمر بقتل أهل النار. و یقول الونشریسي إمعاناً منه في خداع أهل الجبل البسطاء: قد أنزل الله ملائکة إلی البئر التي في الموضع الفلاني یشهدون بصدقي، فسار المهدي و الناس معه، مسرعین و هم یبکون إلی البئر. فصلی عند رأسها ثم قال: «یاملائکة الله إن الونشریسي قد زعم کیت و کیت». فارتفع صوت من البئر یقول: صدق، و کان هذا صوت الرجال الذین وضعهم فیها؛ ثم قال کیلا ینتشر سرّ ما فعل: إن هذه البئرمطهرة مقدسة قد نزل إلیها الملائکة والمصلحة أن تطم لئلا یقع فیها نجاسة أو مالایجوز. فألقی فیها صحبه من الحجارة و التراب ماطمّها (م. ن، 10/575).و لما رأی ابن تومرت أن الظروف مناسبة من کل ناحیة أمر من نادی في أهل الجبل بالحضور إلی ذلک المکان للتمییز، و حینما حضروا قال: إن الونشریسي رجل أمي و قد جعله الله مبشراً لکم مطلعاً علی أسرارکم و هو آیة لکم، وقد حفظ القرآن، و تعلم الرکوب بعد أن کان یجهلهما، ثم تلا علی القوم الذین أخذتهم الدهشتة الآیة «لیمیزالله الخبیث من الطیب» (الأنفال/ 8/37) و الآیة «منهم المؤمنون و أکثرهم الفاسقون» (آل عمران/3/110) و قال هذا البشیر مطلع علی ضمائرکم (الذهبي، سیر، 19/545). و یبدو أن الونشریسي لقب بالبشیر في هذا الوقت. و طلب منه ابن تومرت أن یمیز له السعداء من الأشقیاء فأجاب البشیر: أما أنت فإنک المهدي القائم بأمر الله. و من تبعک سعد و من خالفک هلک (ابن خلکان، 5/53). ثم أراد من الإمام أن یعرض أصحابه علیه لیمیز أهل الجنة من أهل النار، فکان البشیر یعمد إلی من یخالف المهدي و یشعر بخطره فیخرجه علی یساره، و من هو موافق له علی یمینه (ابن الأثیر، ن. ص؛ ابن عذاري، 4/68)، و کانت الفئة الأولی من أهل النار و الثانیة من أهل الجنة، و في روایة أخری أن الونشریسي کان یذهب بنفسه إلی من یری فیه خطراً و یقول: «هذا من أهل النار». ثم یلقي به إلی أسفل الجبل (ابن الأثیر، ن. ص؛ أبوالفداء، 2/233). وکان أصحاب الیمین أو أهل الجنة عادة من الشبان الغر. وقد قیل إن هذه التصفیة التي تمت في 519هـ/1125م (الذهبي، سیر، 19/545) استمرت 40 یوماً (البیذق، 78) و قتل فیها 70،000 شخص (ابن الأثیر، 10/575). و حینما میز الأشقیاء الذین ینبغي قتلهم أمر الإمام کل قبیلة بقتل أشقیائها، و بذلک هلک هؤلاء التعساء عن آخرهم (ن.ص). و لما رأی ابن تومرت أن أقارب ضحایا التمییز لاتطیب قلوبهم، مال إلی استمالتهم، فجمعهم وبشرهم بانتقال ملک مراکش إلیهم، و اغتنام أموالها. فسرهم ذلک و سلّاهم عن أهلهم (ابن خلکان، 5/53). و زاد ذلک من عزم ابن تومرت علی شن المزید من الهجمات علی مناطق المرابطین.
في الوقت الذي کان فیه ابن تومرت یسعی لتجهیز جیشه شعر أمیر المسلمین بخطر هذا المنافس الجدید، فأمر ببناء المراصد و الاستحکامات باقرب من مراکش، و سد الطرق التي یحتمل أن ینزل إلیها الموحدون من الجبال (ابن عذاري، 4/75). و یروي البعض أن المهدي جهز في 521 هـ جیشاً یضم حوالي 4,000 راجل و 400 فارس – و یذکر ابن خلکان (ن. ص) أنه جهز 10,000 راجل فارس – و سیرّهم إلی مراکش بقیادة أبي عبدالله الونشریسي و عبد المؤمن (ابن عذاري، ن.ص) و ذکر الذهبي (دول الإسلام، 2/33)، وقوع هذا الهجوم في 224هـ. ومما لاشک فیه أن ابن تومرت لم یقم بعد عملیة التمییز هذه بهجوم واحد، بل بعدة حملات علی مراکش، کان آخرها مایعرف بغزوة البُحیرة، و کانت بلاشک في 524هـ/1130م (البیذق، 28)؛ و کانت هذه الهجمات تستهدف مراکش من جبال تینملل، و لذلک تداخلت حوادث السنوات الأولی للصراع مع الحوادث الأخری، و لابد أن هذا هو سبب الاختلاف في السنوات التي ذکرت. وکان النصر في بعضها للموحدین، و في البعض الآخر للمرابطین. و کان البشیر الونشریسي قائد آخر حملة أو إحدی الحملات الأخیرة التي استهدف بها الموحدون مراکش. ولم یشارک ابن تومرت المقاتلین الموحدین في هذه المعرکة لمرضه. وکان المهاجمون یقصدون حصار مراکش حینما هاجمهم أکثر من 10,000 راجل و فارس من المرابطین فقتل فيهذه المعرکة إبراهیم بن تاعبّاست أحد قادة المرابطین و اضطر جیش مراکش للتراجع، فلاحقهم الموحدون إلی مراکش، و استقروا في موضع قریب منها یدعی البحیرة (ابن خلدون، 6 (2)/471). و هرب المرابطون المنهزمون إلی داخل المدینة، ومات منهم جماعة بالازدحام علی الأبواب، و دام حصار الموحدین لمراکش 40 یوماً، توالت فیها الحروب. و اشتعلت نیرانها کل یوم في قتال و هزائم، و کانت قوات المرابطین القادرة علی ردّ الموحدین محاصرة کلها، لاتملک جرأة الخروج؛ وکان رجل من رؤساءالثغور بالأندلس یعرف بعبدالله بن همشک محاصراً مع مائة من أفراد جیشه في المدینة أیضاً، فاستأذن من أمیر المسلمین، و هاجم قلب العدو، و بعد أن خبر مواضعهم و قدرتهم علی القتال عاد إلی المدینة سالماً، و أخبر الأمیر بحالهم. فاستبشر علي بن یوسف، بالنصر، و بعث جیشاً بقیادة أبي محمد بن وانودین لفک الحصار ورد الموحدین (الحلل، 114-115). ودار قتال شدید قتل فیه من الموحدین و حلفائهم مایقرب من 40,000 شخص (ن. م، 116) أو 12,000 (ابن عذاري، 4/76) أو 13,000 (الذهبي، ن. ص). ولم ینج منهم إلا القلیل. ویذکر البیذق (ص 79) أن عبد المؤمن جرح فيفخذه. وقد أطلق علی هذه الغزوة اسم البُحیرة لوقوعها في بستان کبیر، یسمی باللغة العامیة البحیرة (ابن الأثیر، 10/577). و کان القتال قد امتد في ذلک الیوم إلی اللیل، و فُقد فیه البشیر الونشریسي، ولم یجده الموحدون حیاً و لامیتاً (ابن عذاري، ن. ص) سوی عبدالمؤمن الذي کان قد وجد جسده کما یقول ابن الأثیر (ن. ص) و دفنه. وظن الذین لم یطلعوا علی ما حدث أن الملائکة رفعته إلی السماء. وفي أثناء القتال ذهب عبدالمؤمن إلی أبي بکر الصنهاجي، و طلب منها الإسراع في الذهاب إلی ابن تومرت و إبلاغه ماحدث، فلما سمع منه الخبر سأله: «هل عبدالمؤمن علی قید الحیاة؟»، ولما أجیب بالإیجاب قال: «الحمد لله قد بقي أمرکم» (البیذق، 28). عاد عبد المؤمن بعد محاولة أخری فاشلة أراد أن یعوض بها عن هزیمته الأولی، إلی ابن تومرت في تینملل مع 50 رجلاً بقوا من جیشه (ابن عذاري، ن.ص). فهون الإمام علیه و علی أصحابه الأمر، و سعی إلی التقلیل من أهمیة الهزیمة، و قال: إن قتلاکم شهداء، لأنهم ذابون عن دین الله و مظهرون للسنة. و سعی لتقویة عزائمهم في لقاء أعدائهم، وشن الغارات علی مراکش و القتل و السلب و الأسر (المراکشي، 193).
بعد أن تلقی ابن تومرت خبر الهزیمة، اشتد مرضه و لما رأی الموت قریباً استدعی أتباعه ووعظهم فترة، ثم دخل الدار و غاب ساعة، خرج بعدها حاصر الرأس و قال للناس: إنني مسافر عنکم سفراً بعیداً، فقال الناس و عیونهم تفیض بالدموع: و نحن سنذهب معک، فقال: لیس هذا سفراً تأتون فیه معي. إنه سفرلي وحدي. قال هذا و دخل داره و لم یره أحد بعد ذلک (البیذق، 81). و کان عنده قبل موته بأیام یسیرة تلک المجموعة المعروفة بالجماعة و أهل الخمسین و بروایة البیذق (ن.ص)، خمسة من أصحابه المقربین، و کانوا یسألونه، و یجیبهم و یدعوهم إلی الوحدة و یحذرهم من اختلاف الکلمة أثناء جوابه و یرغبهم بالحزم و العزم (المراکشي، 195-196)، و توفي في 13 رمضان بعد أربعة أشهر من غزوة البحیرة (الزرکشي، 7) أو 25 رمضان سنة 524 و هو في حوالي الـ 50 من عمره (ابن عذاري، 4/84) أو الـ 51 (ابن الأثیر، 10/578) و ذکر ابن خلدون (6(2)/472) أن وفاته کانت في 522هـ، وهو غیرصحیح. وأورد ابن تغري بردي (5/254) ذکره في حوادث 528هـ، و هو بلاشک غیرصحیح أیضاً. واسترمت رعامته منذ أن بویع حتی زمن وفاته 8 سنوات و 8 أشهر و 13 یوماً (الحلل، 117). و بعد أن لقب عبد المؤمن في آخر وصایاه بأمیر المؤمنین طلب من أصحابه أن یسمعوا له و یطیعوه (ابن الأثیر، ن. ص؛ المراکشي، 196). و خشي أصحابه من افتراق الکلمة و سخط المصامدة لولایة من لیس من قبائلهم، فکتموا موته 3 سنوات، و الناس یظنون أنه مازال مریضاً (ابن خلدون، ن.ص)، حتی أعلن موته في 527هـ (سالم، 2/781).وقد دفن ابن تومرت في مسجد مجاور لداره في تینملل، و کان قبره مزاراً یقصده المعتقدون به قروناً عدیدة، و بخصه الأمراء الموحدون بأعلی مظاهر الإجلال (عنان، تراجم، 255). و یبدو أن قبره کان مکاناً لتوقف أهل الزهد و التقوی، فقد ورد في ترجمة الفقیه و المحدث و المؤرخ الجزائري أبي العباس أحمد بن الحسن، المعروف بابن قنفذ (تـ 809هـ/ 1406م) أنه لما ترک مسقط رأسه راحلاً، وقف عند قبر المهدي ابن تومرت متفکراً (EI2, III/843). وقد نظم رجل من أهالي الجزائر من أعمال بجایة قصیدة طویلة في وصف المهدي و أنشدها علی قبره في حضور أعیان الموحدین، أو أنه نظمها و أرسلها إلی هناک (المراکشي، 189-191) و مطلعها:سلام علی قبر الإمام الممجّد سلالة خیر العالمین محمدو یدل مافي القصیدة من مدح و ثناء علی المکانة الروحیة المقدسة و الأسطوریة التي کان یتبوأها ابن تومرت بین أتباعه.
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode